×
محافظة المنطقة الشرقية

الأسواق الناشئة تجذب المستثمرين بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي

صورة الخبر

لرمضان في التاريخ الاجتماعي المصري سمة خاصة جعلت شكل أيامه ولياليه مختلفاً في مصر. وما نعرفه بدرجة معقولة من اليقين هو أن أمسيات شهر رمضان ولياليه، كانت للعبادة والمرح والسرور والولائم التي ميَّزها البذخ على الدوام. ولا تمدنا المصادر التاريخية المتاحة بصورة كاملة عن تطور احتفالات شهر رمضان على امتداد التاريخ الاجتماعي المصري، وإنما نجد أمامنا لقطات وصوراً تاريخية سجلها الموروث الشعبي من خلال طبقات العامة الذين لا يزالون إلى الآن يعتقدون أن رمضان ملك من الملائكة، وأنه إذا حلَّ قيَّدَ العفاريت والجن في قماقم من النحاس تشبه الفوانيس. حتى إذا جاء آخر يوم في رمضان أخذ المصريون عدتهم لاستقبال عيد الفطر المبارك، لكنهم في الوقت نفسه يعملون ألف حساب لما توارثوه من الرأي القائل بالإفراج عن العفاريت عقب صلاة المغرب مباشرة حتى تبلغ ببعض أفراد الشعب إلى الخوف من أن عفريتاً من العفاريت التي تخرج منطلقة من القماقم النحاسية قد تضل الطريق فتدخل الدور والمنازل وتستقر فيها، لذلك نرى العامة في مصر يرشون الملح في كل حجرة من حجرات المنزل، بخاصة في أركان الحجرة، ويجلس الأطفال والصبية أمام أبواب المنزل وهم يضربون آنية نحاسية فيها قليل من الملح حتى إذا اقترب العفريت من المنزل وسمع هذه الأصوات النحاسية توهم أنها القماقم التي سجن فيها، فيهرب من أن يسجن مرة أخرى. وجرت العادة أن الأطفال وهم يضربون هذه الآنية النحاسية (الهون) كانون يغنون، يا رمضان يا صحن نحاس/ يا داير في بلاد الناس/ سُقت عليك أبو العباس/ تبات عندنا الليلة». ويرى البعض أن هذه الأغنية وما فيها من ذكر لأبي العباس، والمقصود به الخليفة العباسي، هي من آثار تفضيل العباسيين على الفاطميين في مصر الأيوبية. والفاطميون اهتموا بهذا الشهر اهتماماً خاصاً لأسباب سياسية وأخرى دينية. فمن الأسباب السياسية دفع أقوال جمهور المسلمين المصريين أن الفاطميين ليسوا منهم وأنهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر والإلحاد. لذلك، كان الفاطميون حريصين أشد الحرص على المبالغة في كل شيء يمت بصلة إلى الدين وفرائضه، ومن ثم بالغوا في الاحتفال بشهر رمضان. أما الناحية الدينية فكان للفاطميين تأويل باطني لهذا الشهر المعظم أنه ملك كريم هو أعلى الملائكة مكانة عند الله وأقربهم إليه تعالى. والمتتبع جذور الموروث الشعبي المصري سيجد أن هذه التأويلات تسربت إلى الأغاني الرمضانية، من ذلك ما رواه محمد البقلي نقلاً عن الجبرتي أنه في القرن الثامن عشر الميلادي (الحادي عشر الهجري) استمع أحد الفقهاء المتصوفين إلى الأطفال وهم ينشدون: «أحدتك حدوتة بالزيت ملتوتة، حلفت ما أكلها حتى ييجي التاجر، والتاجر فوق السطوح، والسطوح عاوز سلم، والسلم عند النجار، والنجار عاوز مسمار، والمسمار عند الحداد، والحداد عاوز بيضة، والبيضة في بطن الفرخة، والفرخة عاوزة قمحة، والقمحة في الأجران والأجران عاوزة الدراس... إلخ. ففكر هذا المتصوف طويلاً في هذه المتواليات المتعاقبة والتي تتحمل كل قضية منها الأخرى، وبدأ ينظر إلى معانيها بالنظرة الباطنية، فإذا به يخرج لنا معاني صوفية خالصة لهذه الأغنية الشعبية التي يغنيها الأطفال في رمضان. فقد ذهب مثلاً إلى أن معنى (أحدتك حدوتة بالزيت ملتوتة) يعني السر الإلهي والسلاف الأحمدي الممزوج براح القرب والتقريب المدار من يد الحبيب (وهذا عند الصوفية هو ما يعبرون به عن مذهبهم في الحب الإلهي عن وصول العلوم الباطنية إليهم وانتقال الأسرار الصوفية والمدد إلى كل من يستجيب إلى طريقتهم). ثم فسر الجملة الثانية (حلفت ما أكلها) بقوله: أي أتناولها فإن المقصد لا يتم بلا وسيلة، والسالك قبل أي شيء يحصل دليله، (حتى ييجي التاجر) أي المسلك العامر، والمراد به المرشد الكامل والمربي الواصل، والمراد به عند الصوفية الشيخ الذي يدل المستجيب إلى طريق الصوفية. هكذا أخذ هذا الشيخ الصوفي يؤول هذه الأغنية الشعبية، أغنية الأطفال وهم في بشرهم بليالي رمضان. فهل فكر أحد أدبائنا في استخراج مثل هذه التأويلات الصوفية أو هل فكر أحد المؤرخين في معرفة أصول هذه الأغنية؟ ومتى ظهرت للمرة الأولى في تاريخنا المصري؟ ها نحن ندعو مؤرخينا وأدباءنا إلى البحث عن ذلك كله، لا سيما أن هذه الأغنية كانت معروفة في مصر في العصر العثماني بدليل أن المؤرخ المصري عبدالرحمن الجبرتي أوردها في كتابه ومعها هذا التفسير الصوفي كتقليد مصري متوارث يعبر عن مدى حيوية التراث الثقافي المصري، وأن رمضان في مصر مختلف عن رمضان في أي مكان آخر.