بدأت المستشارة الإعلامية للرئيس السوري مقابلتها القصيرة مع محطة «سكاي نــيــوز» البـــريـــطانية بترداد المقولة الرسمية عن الإرهاب والاستعمار، كأنها واجب لا مفرّ منه. فبعد اتّهام الغرب بـ «النيو-كولونيالية»، وهو اتّهام أطلقته بضجر ظهر على تعابير وجهها، رفعت أستاذة الشعر والأدب المقارن حدّة الكلام ووصفت الصراع الجاري في سورية مستعينة بخطاب «الحرب على الإرهاب» وتلاوينه العديدة، وهو المفترض أن يكون أقرب إلى قلوب الغربيين الملوّعين من الإرهاب. غير أنّ فشل هذه المحاولة وإصرار المذيعة على أسئلتها المحرجة أفقدا المستشارة الإعلامية أعصابها لتصرخ بصراحة غير معتادة في تلك المقابلات: «ما يجري في سورية مريع. ما يجري للمسيحيين. أليس الغرب مسيحياً؟ ألا تهتمون بمصير المسيحيين؟ ألا تكترثون للغة المسيح؟». كانت صرخة بثينة شعبان صريحة ومعبّرة عن ضياع وجودي. فما اكتشفته المستشارة الإعلامية خلال الدقائق القليلة التي استغرقتها المقابلة هو اختفاء الغرب، أو بكلام آخر، عدم ملاءمته الصورة التي عاشت وتربّت عليها المناضلة السورية. فالمُحاور المتخيَّل للمستشارة لم يكن «الغرب الديمـوقـراطـي» أو «غـرب حقوق الإنسان» أو غير ذلك من ترّهـات، بل ذهـبـت خـبــيرة تـفكـيك الخـطـاب الغــربـي مبـاشـرة إلى صلب الموضوع، وطالبت الغرب الحقيــقي بمحاورتـــها، غـــرب الكولونيالية والاستعمار، ومن ثمّ غرب العداء للإسلام. وعندما لم تسمع رداً من هذا الغرب، استنزفت أستاذة الشعر والأدب المقارن آخر تعريف متبقٍ في ترسانتها، وهو مسيـحـية هذا الـغرب، لعلّه يعود إلى حــقـيقته ورشـده ويعـادي الإسلام كما يُفـترض أن يفعل. في أقل من سبع دقائق، لخّصت بثينة شعبان كتاب «الإســـتشـراق»، وإن كان بـتسلسل معكوس. تعجّب المستشارة الإعلامية وصدمتها يعبّران عما هو أكثر من ورطة النظام الذي تمثّله، وهما ناتجان من صورة مركّبة للغرب انبنت على مدار العقود نتيجة تراكم وتبسيط عدد من النظريات النقدية لهذا الغرب، وهي صورة تتعدى الممانعة ومستشاريها الإعلاميين. فلموقفها صدى مثلاً عند بعض المعارضين السوريين الذين كانوا يناشدون الغرب «الإمبريالي» التدخّل حفاظاً على «مصالحه»، مفضّلين التعايش مع هذا التناقض على إعادة تعريف الغرب في مخيلتهم. وإلى هذا الحد أو ذاك، فالغرب الذي يُطالَب بالتدخّل أو الكفّ عن التدخّل والذي يُشكّل الشريك في حوار الأديـان والـثقافات، هـو غـرب ناتج من هذه الـصورة التـي رُكـِّبت من فـتات تـراث طـويـل لنـقـد الغرب. وهو تـراث يـفترض أن حـقيقة هذا الغرب لا يكشفها إلاّ العربي بصفته ضحية الإمبريالية، أو الحرب على الإرهاب أو الغزوات الصليبية. غير أنّ تعريف الغرب من خلال هذا التراث النقدي لم ينبع في الغالب من رغبة في تخطّيه في اتجاه موقف أكثر أخلاقية. فصرخة بثينة شعبان لم تكن نقداً للغرب، بل لوماً موجهاً لرفضه لعب الدور المناط به في هذه النظريات. فلم ترَ المستشارة الإعلامية للقصر الجمهوري أي تناقض بين نعتها هذا الغرب بـ «النيو-كولونيالية» وطلب محاورته، أو استخدام خطاب «الحرب على الإرهاب» بعدما نبذه لسنوات أطراف تحالفها وامتداداته الثقافية، أو حتى محاولة استمالة الغرب بصفته مسيحياً معادياً للإسلام. وهذا التناقض أيضاً لا ينمّ عن أزمة النظام السوري وخطابه المزدوج، بل عن التباس عام تجاه هذا الغرب المتخيّل، وهو التباس يمكن إعادته إلى رغبة في مشاركة هذا الغرب المنقود، أو بلغة أدّق، في مشاركة هذه الصورة عن الغرب في أفعالها. هذه الرغبة الدفينة تظهر مثلاً في الاستيراد المعمّم لخطاب محاربة الإرهاب في نسخته الأسوأ، ومن دون أي حرج تجاه سنوات النقد الماضية، وأيضاً من دون الجرأة الأخلاقية لجهة احترام حقوق ملكية هذا الخطاب. فسنوات رصد آثار ذاك الخطاب على المسلمين والدموع التي تساقطت على كل عربي فُتّش في مطار أميركي والسخرية التي وُجِّهت إلى الولايات المتّحدة وتعاطيها الأمني مع مسألة الإرهاب...، باتت كلها منسية أمام دعوة عبد الفتاح السيسي لمحاربة الإرهاب، أو دعوة حسن نصرالله لمكافحة التكفيريين. فمن منظور خطاب الممانعة عن الإرهاب، تبدو معارضة خطاب «الحرب على الإرهاب» خلال السنوات الماضية مجرّد نفاق يعبّر عن عنصرية قد تفوق العنصرية المفترضة في الغرب. فممارسات الغرب الماضية باتت ممارستنا الحالية، وكأن نقد السنوات الماضية لم يكن سوى ابتزاز أملتْه دوافعنا كي نشارك في ذاك المحفل. كذلك يظهر هذا الالتباس الخطابي في مسألة التعاطي مع القضية الفلسطينية، التي رُفِّت إلى رتبة المسألة المركزية لأي حوار مع الغرب. فبقي «عقلاء» العالم العربي يردّدون لعقود مقولة أنّ لا حل للعلاقة المتصدّعة بين العرب والغرب قبل حل مسألة النازحين. وتمّ تظهير آلاف الصور للتعبير عن مأساة اقتلاع شجرة زيتون من قبل مستوطن إسرائيلي، أو تجربة الهجرة في الغرب وهوياتها المتصارعة. غير أنّ هذه اللغة ضاقت رقعتها فجأة عندما أصبحت المسألة مسألة تمثيل عملية تجويع بعثي أو حصار مصري أو حرب يقودها مقاومون، لتفقد الكلمات قدرتها الدلالية. وهذا ليـس للقـول إن الـضـحايــا تُــعرَّف بهوية جـلادها فحسـب، فهذا الدرس تعلّمه ضحايا «حرب المخيمات» في لبـنان، عندما واجـههم الـكــيل بالمـكيـالين، فشـُملوا بالكيل الذي كان مخصــصاً فـقطـ لإســرائـيـل. لــكن الـمــقارنـة تــشــير إلى أنّه بعد مخيم اليرموك والحملة العـسكرية المصرية على الفلسطينيين، بات التـضامن مع هـذه القـضـية مـجرّد عمـليـة ابـتـزاز في حوار مفاده إقناع هذا الغرب المتخيّل بأن يكون أكثر رحابة تجاه جلادي العالم العربي. ... ما أظهرته مقابلة بثينة شعبان هو الفراغ الأخلاقي لخطاب بات يدور حول نفسه. مع الانهيارات الخطابية التي تشهدها المنطقة، بات من المستحيل نقد أي ممارسة حقيقية أو متخيّلة للغرب، أكان كولونيالياً أو مسيحياً، من دون إعادة تعريفه ومن خلاله الهوية المناقضة له. فحماسة نقّاد هذا الغرب المتخيّل لتكرار ممارساته أفقدت النقد كلّ فعالية لتحوّله مجرّد دعوة إلى مشاركة الغرب في نيو-كولونياليته وفي حربه على الإرهاب. وإذا اقتضى الأمر، مـشاركتـه مسـيحيـته، طالمـا النقّاد هؤلاء معادون للإسلام.