كان إيزايا برلين في العقد الأخير من عمره، حين قدم ما اعتبره خلاصة لتأملاته في الحياة. يوم توفي في 1997 قالت الصحافة البريطانية إن برلين كان واحدًا من أفضل المتحدثين غزارة في المعلومات، وقدرة على ربط الأفكار والتحليل الفلسفي للمشكلات. في محاضرة ألقاها سنة 1988، قدم إيزايا برلين رؤية يقول إنها تشكل الخيط الذي يجمع بين تأملاته لما يزيد عن ستين عامًا، بدءًا من قراءته الأولى لرواية تولستوي المشهورة «الحرب والسلم». تتعلق هذه الرؤية بالدوافع الكامنة في أعماق النفس الإنسانية، التي تجعل البشر يرتكبون أعظم الآثام، ثم يكررونها مرات كثيرة. لكنهم في نهاية المطاف يتمردون على ميلهم الغريزي للإثم والعدوان، كما يتمردون على نوازع اليأس والإحباط والسخط، ليتجهوا - من ثم - إلى طريق الصلاح والإصلاح. عاصر برلين الظروف القاسية لأوروبا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، ورحل من مسقط رأسه وهو شاب يافع. وكان عاشقًا للرواية الكلاسيكية، لا سيما كتابات الأدباء الروس التي اتسمت عمومًا بوصف مشاهد المعاناة والألم في المجتمعات الفلاحية والهامشية. وكان جديرًا به أن يميل إلى التشاؤم من الطبيعة البشرية. لكنه بدل ذلك نظر إلى الصورة الكاملة. وهذا شأن الأذكياء الذين لا يتوقفون عند النقاط السوداء في مسيرة عمرها آلاف السنين. لو نظر برلين إلى العالم من زاوية آلامه الخاصة أو حتى آلام وطنه وقومه، لانشغل بالعزاء عليهم أو البحث عن معايب أعدائهم. لكنه بدل ذلك نظر إلى الصورة الكاملة، فاكتشف حقيقة أن البشرية تنتكس أحيانًا، لكنها تعود دائما إلى الطريق القويم. بل إن معظم الاختراقات العظيمة التي حققها الإنسان خلال تاريخه الطويل، كانت ثمرة لتلك الانتكاسات. نعرف أن الاختراقات الأولى في مجال الفلسفة وُلِدت في رحم الحروب الدينية، التي تورطت فيها أوروبا لما يقرب من مائة عام. كما أن بواكير التقدم الهائل الذي يعرفه عالم اليوم في مجال المواصلات والاتصالات والإلكترونيات والاقتصاد والقانون ولد في رحم الحربين العالميتين الأولى والثانية. فكأن الطبيعة الخيرة للبشر تأبى إلا أن تستدرك آثامها وانزلاقاتها الكارثية، فتعود لتصلح ما كان سببًا في تلك الآثام. لا نعرف في الحقيقة كيف سيكون عالمنا لولا القانون الدولي الأخلاقي الذي يحمي المدنيين في ظروف الحرب، ويعاقب على جرائم الحرب والإبادة الجماعية والتعذيب. ولا نعرف كيف ستكون حياتنا، لولا السيارات والطائرات والسفن العابرة للمحيطات وأجهزة الاتصال والإنترنت. ربما كانت البشرية قادرة على التوصل إلى هذه المنجزات بطريقة أو بأخرى. لكن الذي نعرفه فعليًا هو أن هذه جميعًا كانت - بصورة أو بأخرى - رد الإنسان على انزلاقه إلى الحرب على أخيه الإنسان. ربما نعتبرها اعتذارًا غير مباشر من جانب «الأنا» العليا العاقلة السامية، عن آثام «الأنا» الدنيا الغريزية المجنونة أو السفيهة. رأى إيزايا برلين أن جوهر الكائنات البشرية يكمن في قدرتها على اختيار طريقة للعيش، تتلاءم مع حقائق الكون الذي نتشارك الحياة فيه، والتوصل من وراء هذا الإيمان إلى التجسيد الأمثل لمقتضيات الفطرة الطيبة التي تشكل ذات الإنسان الأصيلة، قبل أن تتلوث بالمنغصات والنزاعات وأسباب القلق. جوهر إنسانية الإنسان يكمن في قدرته على التحرر من قيوده، كما أن عقلانية العقل تكمن في قدرته على العبور من حدود ذاته، إلى ما يختفي وراءها من غيوب واحتمالات لا تسمح بها ظروف الواقع، لكنها تظل حية وقابلة للإدراك، أو على الأقل للتخيل.