على رغم فشل الجهود الإسرائيلية لإحباط مبادرة السلام الفرنسية ومصادقة وزراء خارجية 28 دولة أوروبية عليها وعدم معارضة الإدارة الأميركية لها، إلا أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتانياهو، يواصل جهوده ويكثفها ساعياً الى إقناع عدد من الدول بموقفه الرافض للمبادرة، بادعاء أن السلام مع الفلسطينيين لا يحقق إلا بمفاوضات ثنائية ومن دون أي تدخل خارجي. حاول ذلك بداية في مكالمة هاتفية مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. وزيارته الى روما ولقاؤه المرتقب مع وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، في مطلع الأسبوع، سيكونان محاولة أخرى له في هذا الإطار. وهو وإن كان يعلم انه لن يضمن تحقيق النجاح في هذه الجهود، لكنه على الأقل قد يحقق جانباً من مطالبه في تقرير الرباعي الدولي حول موضوع الجمود السياسي، المتوقع نشره الخميس المقبل. إذ سيطلب تخفيف لهجته ضد إسرائيل. قلق الحكومة الإسرائيلية من مبادرة السلام الفرنسية، تحول الى عداء شديد لها في إسرائيل، لا بل إن مسؤولين إسرائيليين يتحدثون علناً عن هذا القلق، بخاصة أن الإدارة الأميركية لم تتخذ خطوات داعمة لإسرائيل أو تساهم في وقف هذه المبادرة. فتقرير الرباعي الدولي، سيستعرض، بالأساس، الجمود السياسي بين إسرائيل والفلسطينيين وانعكاساته على تهديد الحل الذي يجرى الحديث عنه، أي «دولتين لشعبين». الإسرائيليون يتوقعون أن يشمل التقرير انتقادات شديدة اللهجة في موضوع بناء المستوطنات والسياسة الإسرائيلية في مناطق الضفة. نتانياهو يتوقع أن تنجح مساعيه مع كيري في تأجيل هذا القرار وبالتالي تكثيف الجهود الإسرائيلية للتخفيف من حدته تجاه إسرائيل. والى جانب جهود الديبلوماسيين الإسرائيليين لإسقاط بند يربط بين المبادرة الفرنسية واقتراح الاتحاد الأوروبي في كانون الأول 2013، ترقية العلاقات مع إسرائيل الى درجة «شريك مفضل ومميز»، وفي كل ما يتعلق بصفقة المحفزات التي عرضتها اوروبا على إسرائيل، سيسعى نتانياهو الى إظهار حاجات إسرائيل الأمنية وعدم رغبة الفلسطينيين في تحقيق السلام، بخاصة الرئيس محمود عباس. مراقبون يصفون جهود نتانياهو بأنها تتسم بقدر فائق من الوقاحة، إذ إنها تأتي في ذروة الجهود الاستيطانية التي ينفذها اليمين الإسرائيلي، بدعم كبير من نتانياهو ووزرائه. وهو، كما في كل جهود مثيلة سابقة لإحباط أي تقدم نحو السلام، يحاول كسب كلا العالمين، ويخفف الانتقادات الدولية ويرضي اليمين والأحزاب التي تشكل ائتلافه، بخاصة بعد دخول حليفه الأقوى، افيغدور ليبرمان الحكومة. فأية تسوية سياسية تعني التخلي عن مستوطنات الضفة الغربية ووقف البناء الاستيطاني، وهو أمر ليس فقط يرفضه اليمين، بل يسعى حالياً الى تعزيزه وتوسيع المستوطنات. ولعل القرار الذي اتخذته الحكومة الإسرائيلية بزيادة ميزانية المستوطنات بأكثر من عشرين مليون دولار، هو تأكيد عدم رغبة نتانياهو في السلام ووضعه المزيد من العراقيل وفرض أمر واقع يجعل تحقيق أية تسوية في غاية الصعوبة. قرار الحكومة جاء بعد أسبوعين فقط من تصريحات نتانياهو الى جانب ليبرمان، في حفل تسلم الأخير منصبه الجديد، حول رغبتهما في تحقيق السلام وقبول المبادرة العربية، باعتبار أنها تتضمن «عناصر ايجابية». في حينه كان واضحاً أن حديث نتانياهو وليبرمان مجرد ضريبة شفوية للمجتمع الدولي، حيث لم تكن المرة الأولى التي يطلقان فيها مثل هذه التصريحات، ومع تخصيص الميزانيات للمستوطنات ورفض مبادرة السلام الفرنسية، جاء الدليل القاطع على حقيقة هذه النوايا، يضاف اليها المشاريع الاستيطانية التي تنفذ في القدس، وفي سلوان على وجه الخصوص، حيث جهود التهويد الاستيطانية هناك مستمرة من دون انقطاع منذ ما يزيد على 25 عاماً. وتم استثمار مئات ملايين الشواقل في هذه المشاريع، وأبرزها مشروع يشمل طرد 51 عائلة فلسطينية من هناك. المعركة الداخلية معركة نتانياهو لا تقتصر على الحلبة الدولية انما في الداخل الإسرائيلي، الذي يشهد معركتين في مسارين متناقضين. من جهة اليمين يعمل، وفي شكل مكثف، على تعزيز وتوثيق مبادئه المبنية على عدم التنازل عما يعتبره، أرض إسرائيل، عبر المشاريع الاستيطانية في المستوطنات والبؤر الاستيطانية المقامة في الضفة وعلى أراضي الفلسطينيين، وجعل القدس العاصمة الأبدية والموحدة لإسرائيل، عبر المشاريع الاستيطانية التي لا تتوقف. وفي معركة أخرى على الخط النقيض، تسعى أحزاب الوسط واليسار الى تشكيل حزب يشمل كافة الأحزاب الرافضة لسياسة اليمين والداعمة للمبادرات الاقليمية. ويبرز في هذه الجهود اسحق هرتسوغ، رئيس المعسكر الصهيوني وشريكته في الحزب، تسيبي ليفني. وفي إسرائيل تم الترويج لتفاهمات سياسية سبق وتوصل اليها هرتسوغ وابو مازن، في مفاوضات سرية بينهما. وبموجبها تشكل مبادرة السلام العربية قاعدة للواقع الاقليمي الجديد في الشرق الاوسط، بعد توقيع الاتفاق. ويتبين انه في مسألة الحدود وافق هرتسوغ على تحويل السيطرة على كل المناطق التي تم احتلالها عام 1967، ومن بينها 4 في المئة في إطار تبادل الأراضي. وفي مسألة القدس، وافق هرتسوغ على انسحاب إسرائيل من أحياء القدس الشرقية وان تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية، فيما تتولى بلدية واحدة معالجة الشؤون البلدية في العاصمتين. ووفق الخطة، كان من المفروض ان تعمل في الحرم القدسي قوة متعددة الجنسية، فيما يخضع حائط المبكى للسيادة الإسرائيلية. كما تم الاتفاق على حل مسألة اللاجئين على أساس مبادرة السلام العربية المشتركة القائمة على القرار 194 للأمم المتحدة، ووفقاً له يتم دفع تعويضات مالية لغالبية اللاجئين وعودة قسم رمزي منهم على أساس قرار مشترك. كما اتفق الاثنان على العديد من الترتيبات الأمنية. اسحق هرتسوغ، الذي يقود اليوم الجهود لإحباط جهود نتانياهو وإفشال حكومته، يحظى بدعم كبير من شريكته ليفني، التي أوضحت موقفها في مؤتمر هرتسليا، هذا الشهر، عندما تحدثت عن جهود لتشكيل كتلة ديموقراطية مركزية عبر توسيع المعسكر الصهيوني، من المتوقع أن تعرضها في غضون أشهر قليلة. وفي تصريح أعقب هذا المؤتمر، وخلال مشاركتها في برنامج الحديث الثقافي في ريشون لتسيون، تحدثت عن أخطار الحكومة الإسرائيلية وخضوع سياستها ونشاطاتها في الضفة لمجلس المستوطنات «يشاع» بقولها ان الحكومة تفعل ما يريده قادة هذا المجلس، الذي يفرض أجندته على الحكومة. ويبدو أن توجه ليفني يحظى بدعم واسع، خصوصاً حديثها عن ضرورة أن تختار إسرائيل بين تقسيم الأراضي التي يريدها الفلسطينيون جزءاً من دولتهم المستقبلية أو ضمها إليها. وتدعو ليفني الى استفتاء شعبي بين حل إقامة الدولتين او دولة بين النهر والبحر. أو إسرائيل يهودية وديموقراطية او يهودية وغير ديموقراطية؟ هناك إجماع على ان نتانياهو بات يشعر بضغوط تهدد مكانته، أيضاً داخل إسرائيل. ليس لأنه يواجه حركة سلام واسعة تطالبه بتغيير سياسته، بل لأنه يخشى من تحركات تراكمية تقود الى حملة شعبية ضده. وهناك أساس لمخاوفه. ففي الأسابيع الأخيرة، اشتدت الحملة ضد سياسته من عدة أطراف. أصدقاؤه ينصحونه بأن لا يستخف بالانتقادات الواسعة والشديدة التي أطلقها وزير الدفاع السابق موشيه يعلون ووزير الدفاع ورئيس الحكومة الأسبق ايهود باراك، واللذان اتهماه باعتماد سياسة تخويف كاذبة للمواطنين. ويعلون وباراك هما رئيسان سابقان لأركان الجيش الإسرائيلي. وهناك حراك بدأه رئيسان آخران سابقان للأركان، هما غابي اشكنازي وبيني غانتس، اللذان أقاما حركة شعبية لتغيير التعامل مع بلدات الريف. وفي الأسبوع الماضي، تلقى نتانياهو ضربة من النخبة العسكرية الأمنية والأكاديمية التي التأمت في مؤتمر هرتسليا السادس عشر، والتي أطلقت نداء لتغيير السياسة الإسرائيلية مع الولايات المتحدة ووقف التدهور فيها ولتغيير سياسة «الانتظار والتفرج من بعيد على ما يجرى في العالم العربي، وطالبوه بقبول مبادرة السلام العربية وانتهاز الفرصة السانحة لعملية سلام اقليمية. وكان معارضوه في اليمين المعتدل قد باشروا في إقامة حزب جديد يسعى لإسقاطه حتى لا تقود سياسته الى تحويل إسرائيل الى دولة واحدة مع الضفة الغربية، فتضيع الفكرة الصهيونية عن دولة صهيونية ذات اكثرية يهودية. وفوق كل هذا، يواجه نتانياهو تطورات جديدة في قضايا الفساد التي أعيد فتحها من جديد، والتي لم يستطع تجاهلها حتى المستشار القضائي للحكومة، افيحاي مندلبليط، وهو مقرب جداً من نتانياهو. ويقال ان الشبهات ضده باتت صارخة. ازاء كل هذه الأوضاع يتحرك نتانياهو، وهمه الأساس هو الحفاظ على كرسيه في رئاسة الحكومة. فاطمئنانه بأنه لا توجد ضده معارضة حقيقية، ليس بوليصة تأمين. الفشل قد يؤدي الى سقوطه حتى في صفوف معسكره اليميني.