شتاء 1964 كان قد مضى على انضمامي إلى «الرأي العام» في الكويت أشهر قليلة، فقد وصلتها في الوقت الذي يغادرها فيه أهلها إلى جبال لبنان في يوليو (تموز) هربًا من الحر والرطوبة وطلبًا لطقس بحمدون. وكان عميد الدار، عبد العزيز المساعيد، حادًا وودودًا. وكنت على جانب المودة. ويبدو أنه وجهت إليه الدعوة لحضور الاحتفالات باستقلال كينيا في 12 ديسمبر (كانون الأول) 1964. خطر له أن أكون رفيقه في الرحلة، أتولى تغطية التفاصيل. وعندما ذكر اسم كينيا أمامي، تراءت لي على الفور أفريقيا تلك الأيام، والأكواخ المنتشرة في الغابات، ومعارك «الماو ماو»، وكتابات غراهام غرين ورحلاته، وكتابات جوزيف كونراد وعمق الظلمة في الأدغال، وأفلام طرزان وصديقته القردة «شيتا». لم يبق شيء لم يمر في بالي. لكن هل يجوز أن أبدو جبانًا أمام رحلة صحافية هي حقًا من العمر؟ من أجل السفر إلى نيروبي آنذاك، كان علينا أن نأتي أولاً إلى بيروت، وتلك محطة سعيدة بعد غياب، ومن ثم إلى القاهرة، ومن القاهرة إلى الخرطوم، ومن الخرطوم إلى عاصمة الاستقلال الجديد، التي كانت إلى عام مضى عاصمة «الماو ماو». وها هو زعيم حروب «الماو ماو»، جومو كيناتا، يصبح الرئيس الاستقلالي المؤسس. وسوف نراه عن قرب. لكن ماذا عن الأفيال؟ خلال وجودي في بيروت اتصلت بجميع الزملاء الذين سافروا إلى أفريقيا، ورحت أطلب النصائح: كيف تغلقون النوافذ؟ كم نوعًا من التلقيح يجب أن أتلقى؟ كيف يميز المرء الإصابة بالكوليرا؟ التوقف في الخرطوم كان باب الدخول إلى القارة التي استبدلتُ باسمها الكولونيالي «السوداء» اسما آخر هو «السمراء». وكانت الخرطوم يومها مدينة صغيرة سعيدة تهنأ، ليس إلى نيل واحد، بل إلى نيلين، ففيها يلتقي الأبيض الكبير بالأزرق الشقيق. وسوف أروي حكاية صغيرة عن طيبة السودانيين، لكن أحدًا لم يصف تلك الوداعة مثل الدكتور زياد الدريس في رثاء صديقه ورفيقه في اليونيسكو الدكتور محمد صالح زيادة، الذي كان بين ركاب الطائرة المصرية المنكوبة. أما الحكاية، فقد استقللت سيارة تاكسي من الفندق يقودها سائق متقدم قليلاً في السن. وأول سؤال يطرحه سائقو التاكسي على ضيوفهم، في أي مكان في الأرض، من أين أنت؟ وسُرّ الرجل بأنني من لبنان. وتشديدًا على ذلك أفاض: «لي صديق عزيز جدًا من بلاد الشام اسمه مصطفى. تعرفوا يا ترى؟». قلت للعم عثمان إن بلاد الشام ضاحية كبيرة. ولكن من يدري، فربما أنني التقيت ذات يوم صديقه الوحيد في تلك البلاد، مصطفى. وقبل أن ينزلني أمام دار صحيفة «الأيام» وعدته بأنني إذا التقيت مصطفى فسوف أنقل له تحياته. وراح يشكرني وكأنني التقيت مصطفى حقًا وعدت منه بالتحية المقابلة. إلى اللقاء..