من أشهر الأعمال الفنية في الأدب العالمي كانت مسرحية صمويل بيكيت «في انتظار جودو»، التي عرضت منذ عام 1953 في مسارح أوروبية كثيرة. وربما كان جزءا من شهرة العمل، أنه كان موضوعا لتفسيرات كثيرة بين مدارس فكرية وفلسفية متنوعة، لأنها تدور بين شخصين «فلاديمير» و«استراجون» التقيا على انتظار «جودو» الذي لا يأتي أبدا. هناك دوما شيء مفقود ينتظره الإنسان، أو البشر جميعهم، لكي يخلصهم مما هو فيه، ولكن الغياب المستمر يجعل البحث عن «المنتظر» داخليا في الذات التي هي الأخرى غامضة وموحشة، ولا تقل تعقيدا عن ذلك الخارج. العجيب أن المعرفة بالقادم لا يجعل المسألة أكثر سهولة أو أقل تعقيدا، فالسويسري فردريش دورينمات جعل نقطة البداية في «الزيارة» (1956) ليس انتظار الغائب، بل حضوره إلى مدينة «جولين» المحرومة والفقيرة في شكل سيدة عجوز لديها من المال كثير ترغب في إنفاقه لإخراج المدينة من عثرتها، وأهلها من فقرهم، إذا ما قاموا بقتل حبيبها السابق الذي اغتصبها في صغرها. المأساة الإنسانية هكذا تكتمل حلقتها، عندما يكون الحضور لا يقل تعقيدا عن الغياب؛ ويصبح قول «النفري» إنه «لتمام الظهور لا بد من غياب» موضوعا للتساؤل. وهكذا تبدو الحيرة الذائعة في منطقتنا بين حضور أميركا أو غيابها، وأيهما أكثر كارثية، مسألة تجعل الاعتماد على الغير وانتظاره أو استقباله محملا بأثمان باهظة. ولا يوجد حل لهذه المعضلة أو تلك، إلا بأخذ تلابيب المعضلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحتى النفسية، بالجدية التي تستحقها والمضي قدما في مسيرة لاكتشاف المستقبل، تعتمد أساسا علي تراث غني للبشرية بين التخلف والتقدم. الأمم في عمومها التي ظلت تنتظر «جودو» عانت من سأم الانتظار وما يثيره من أسئلة محيرة؛ أما تلك التي تولت احتضان «الزيارة» فإنها انتهت إلى مأساة من نوع أو آخر. المدينة، أو الدولة العربية، أو المنطقة العربية في مجملها عانت من انتظار الحضارة الغربية لكي تحل لها مشكلاتها سواء في بناء المؤسسات أو التصنيع أو الحداثة في مجملها؛ كما عانت أكثر عندما زارتها هذه الحضارة بصفتها حليفة أو صديقة أو غازية. وفي كل الأحوال، بين الغياب والظهور، فإن العالم لم يكن ساكنا، بل كان يتغير كل يوم بفعل التكنولوجيا وقوى الإنتاج التي وصلت ثوراتها الآن إلى أربع، أو بفعل القفزة في علاقات الإنتاج التي عقدتها التجارة وبورصات المال والسفر والترحال وحركة اللاجئين. المدهش أنه عندما ضجّ الشباب العربي وارتج بفعل المعضلات الفلسفية، فإنه عندما وصل إلى الميادين وقف حائرا لا يعرف ماذا يفعل، فقامت جماعة الإخوان ومن بعدها «القاعدة» و«داعش» بخطف ثمرة السياسة والسلطة. لم يكن هناك اكتشاف للمستقبل، وإنما عودة إلى الماضي، وكان ما كان من عنف ومجزرة. الآن هناك احتمال وجود ضوء في نهاية النفق، وربما كان لولوج السعادة لا بد من عذاب، ومن جوف الكرب الذي جرى في اليمن، والدخان واللهب الذي استعر في سوريا، أصبح الإصلاح ضروريا، وهو ما نجد له علامات في المغرب وفي تونس والأردن ومصر والإمارات. وهنا، فإن المملكة العربية السعودية تبدو حالة خاصة، ليس فقط لأنها كانت دوما الأكثر محافظة بين الدول العربية، وإنما لأنها تبدو الآن الأكثر جرأة وجسارة. الحديث هنا ليس عن الأوضاع الاستراتيجية، والحرب في اليمن، وإدارات العلاقات والصراعات في سوريا ولبنان ومع إيران، والعلاقات مع مصر، وإنما في رؤية ومشروع ربما تكون شجاعته سببا في تغيير المنطقة كلها. فتاريخيا مرّ على المنطقة مشروعان للنهضة: الأول جاء في القرن التاسع عشر، وكان جوهره الخلاص من الإمبراطورية العثمانية، وإقامة الدولة العربية بعد الحرب العالمية الأولى. هذا المشروع بدأ في منطقة الشام، ولكن تطبيقاته امتدت شرقا إلى العراق وغربا إلى مصر وجنوبا إلى السعودية. والثاني جاء بعد الحرب العالمية الثانية، وقام على تدخل يد الدولة في شؤون المجتمع، سواء كان ذلك بالقوة الباطشة الخشنة، أو بالمال والكلمة الناعمة؛ وهنا كانت الريادة لمصر، ومنها إلى شرق وغرب العالم العربي ملكيا كان أو جمهوريا. هل نشاهد الآن، وسط الدخان والحرائق الكثيرة، بداية نهضة ثالثة منطلقة من الجزيرة العربية، خصوصا من المملكة العربية السعودية، سوف يكون لها تأثيراتها على بقية المنطقة؟ البداية كما نعلم كانت في دولة الإمارات العربية المتحدة، ذات اقتصاد السوق دون مواربة، التي كانت لها قدرة على التنوع الاقتصادي، بحيث بات نصيب النفط من الناتج المحلي الإجمالي 30 في المائة. ولكن السعودية في مشروع «رؤية 2030» تضيف للتجربة دولة مساحتها أكثر من مليونين من الكيلومترات المربعة، وسكانا يزيدون على 30 مليون نسمة، وموطئ قدم على البحر الأحمر، والخليج العربي، وبحر العرب ومن ورائه المحيط الهندي، وإشعاعات الرسالة السماوية ممتدة ومؤثرة بامتداد العالم، وفي المنطقة حتى البحر الأبيض المتوسط. المشروع السعودي يبدو مركبا، وهو يواجه أكبر التحديات التي تواجه الدولة العربية، حيث التراث ثقيل وتقاليد الماضي مهيمنة. ولكن لحسن الحظ، فإن الشباب فوار بالحماس، ومع تعليم متقدم في عواصم العالم المختلفة، والوقوف على أحدث ما عرفه العالم من تكنولوجيا، ووضع البداية السياسية مع انتخابات المحليات ومشاركة المرأة فيها خطوة كبيرة؛ وتقييد حركة المحافظين حامل لبشرى تستقيم فيها علاقات البشر وتتزن. ولكن الاقتصاد في النهاية هو الذي يعيد تشكيل العلاقات والتعاملات، وإلى حد كبير يضع النقاط على الحروف. والأهداف في هذه الحالة طموحة، وهي ليست مجرد الخروج من العهد النفطي واستخدامها لمعالجة وإدارة الفقر، وإنما إدراك الثروة، واستخدامها في تحقيق التقدم واللحاق بدول كثيرة سبقتنا. أليس مدهشا ألا تكون هناك دولة عربية واحدة تماثل كوريا الجنوبية في قدراتها الاقتصادية، ومناعتها التكنولوجية؟ مشروع «رؤية 2030» ولاحقه «رؤية 2020» المرحلية، سوف نسمع عن كليهما كثيرا خلال الأزمنة المقبلة، لأنهما سوف يضعان الأساس لتحول مهم في الدولة العربية لأن تكون دولة «طبيعية» لا تنتظر ما سوف يأتي، ولا تعرف حقيقة ما جاء. هي في كل الأحوال تبني الطاقة العلمية والقدرة الاقتصادية والكفاءة الاتصالية، التي تتيح لها التواصل مع بقية العالم. مثل ذلك ربما يكون فيه الخلاص الذي نبحث عنه منذ وقت طويل، والذي يكون لديه الإرادة والقدرة على التعامل مع أوضاع منطقة غاصت في النار والوحل خلال السنوات الخمس الماضية. المهم في كل الأحوال أن نشاهد ونتابع البداية، وما سوف يأتي بعدها من تتابع التغيير في بنية الحكومة، والدفع بالاقتصاد الخاص، وإقامة السوق الحرة، وبناء مؤسسات أكثر كفاءة، وإعادة هيكلة قطاعات للخدمات والصناعة، ومشاهدة دخول كبيرة تفوق مداخيل النفط. ساعتها لن يسقط الاقتصاد الريعي فحسب، وإنما معه سوف تنتهي حيرة الانتظار ساعة الغياب، وعقدة المفاجأة وقت الزيارة التي لم ينتظرها أحد.