لا يمكن الحديث عن أعلام المتصوفة بغير سيرة "سلطان العاشقين" عمر ابن الفارض، فأبياته الشعرية من أعمق ما يصف أحوال المتصوفة ومواجدهم وأحوالهم وأذواقهم الروحانية، ورغم أنه عايش أحداثاً كبرى في التاريخ الإسلامي لأنه زامن صعود صلاح الدين الأيوبي وحروب الصليبيين، لكن معانيه النضالية جاءت تعبيراً عن معاني الحب والعشق والوجد “أُخفي الهوى ومدامعي تبديه وأُميتُهُ وصبابتي تحييه فكأنَّهُ بالحُسنِ صورةُ يوسفٍ وكأنَّني بالحُزنِ مثل أبيه” وُلد ابن الفارض بمصر في بيت معروف بالعلم والفقه، وكان والده قاضياً شرعياً، وعرض عليه أن يتولى منصب قاضي القضاة في مصر لكنه آثر الزهد والانقطاع للعبادة والتفكّر على المنصب والسلطان، وتتلمذ عمر ابن الفارض في شبابه على علماء مثل المحدّث العلامة بن عساكر، وكان شافعي المذهب قبل أن يرحل لمكة ويعتزل الناس هناك 15 عاماً كتب خلالها قصائده المشهورة، لكنه لم يكتب كتاباً يدوّن فيه رحلته العلمية والصوفية وتجربته الروحية في العشق والوجد، وبعد عودته للقاهرة جلس في الأزهر وكان مجلسه يحفّه العلماء والطلاب والأمراء، وكان يملي خلاله بعض الأشعار أيضاً. في القرن السابع الهجري حيث كان التصوف الإسلامي قد بلغ ذروته، بدأ يعبر عن نفسه بالشعر والنثر وكتب التزكية والرقائق والعرفان، وظهر ابن عربي في الأندلس، والجيلاني في العراق، والرومي في الأناضول، كان لعمر ابن الفارض مكانته التي حفظها له ديوان شعره، في قصيدته الأشهر "التائية الكبرى" يقول ابن الفارض: قلْبي يُحدّثُني بأنّكَ مُتلِفي ... روحي فداكَ عرفتَ أمْ لمْ تعرفِ لم أقضِ حقَّ هَوَاكَ إن كُنتُ الذي … لم أقضِ فيهِ أسىً، ومِثلي مَن يَفي ما لي سِوى روحي، وباذِلُ نفسِهِ … في حبِّ منْ يهواهُ ليسَ بمسرفِ فَلَئنْ رَضيتَ بها، فقد أسْعَفْتَني … يا خيبةَ المسعى إذا لمْ تسعفِ يا مانِعي طيبَ المَنامِ، ومانحي … ثوبَ السِّقامِ بهِ ووجدي المتلفِ عَطفاً على رمَقي، وما أبْقَيْتَ لي … منْ جِسميَ المُضْنى، وقلبي المُدنَفِ فالوَجْدُ باقٍ، والوِصالُ مُماطِلي … والصّبرُ فانٍ، واللّقاءُ مُسَوّفي إن لم يكُنْ وَصْلٌ لَدَيكَ، فَعِدْ … بهِ أملي وماطلْ إنْ وعدتَ ولا تفي فالمطلُ منكَ لديَّ إنْ عزَّ الوفا … يحلو كوصلٍ منْ حبيبٍ مسعفِ لوْ أنَّ روحي في يدي ووهبتها … لمُبَشّري بِقَدومِكُمْ، لم أنصفِ لا تحسبوني في الهوى متصنِّعاً … كلفي بكمْ خلقٌ بغيرِ تكلُّفِ أخفيتُ حبَّكمُ فأخفاني أسى ًحتى ... لعَمري، كِدتُ عني أختَفي وكَتَمْتُهُ عَنّي، فلو أبدَيْتُهُ … لَوَجَدْتُهُ أخفى منَ اللُّطْفِ الخَفي ولقد أقولُ لِمن تَحَرّشَ بالهَوَى: ... عرَّضتَ نفسكَ للبلا فاستهدفِ أنتَ القتيلُ بأيِّ منْ أحببتهُ … فاخترْ لنفسكَ في الهوى منْ تصطفي يحار المتأمل في عشق ابن الفارض، هل يقصد الحب الإلهي الخالص أم يقصد الغزل الإنساني، وقد عبر الباحث الدكتور مصطفى حلمي عن هذه الحيرة بالقول: "بحكم حياته الصوفية التي كان يحياها منذ بدأ سياحته بوادي المستضعفين بالمقطم، حتى وافته منيته، لابد أن يكون مثله كمثل كثير من الصوفية فيما يستعملون من رمز وما يؤثرون من كناية أو إشارة يعمدون فيها إلى إخفاء أسرارهم وستر حقائقهم عمن ليس من طريقهم، وليس من شك في أن ابن الفارض كان قبل التجريد والسياحة إنساناً كغيره من الناس يخضع لما يخضعون له من مطالب الحس ورغبات النفس، ويتأثر بما يتأثرون به من جمال يتجلى في مختلف الصور الإنسانية والحيوانية والجمادية". ويضيف: "إذن فليس ما يمنع من أن يكون شاعرنا قد أحب حباً إنسانياً في أول عهده، ثم أقبل بعد ذلك على الله، وجرّد عزمه في حبه له، وإعراضه عمّن سواه.. وليس ما يمنع فوق هذا كله من أن يكون الشاعر قد عبّر عن حبه الإلهي في لغة الغزل الإنساني، متأثراً في ذلك بالطريقة الصوفية في الرمز والالغاز". مراحل الحب عند سلطان العاشقين مرّ حب سلطان العاشقين بـ3 مراحل في الأولى أحب الهوى، فيصف الباحث مصطفى حلمي بداية تكشف المعنى عند ابن الفارض بأنه إيثار الحب في نفس المحب وتحمل المشقة والألم لأجل رؤية المحبوب وسماع كلامه بلا شكوى، لكنه يرضى على جميع ما يصيبه من أهوال المحبة "ومن هنا كان الطور الأول لحب ابن الفارض مرآة واضحة ظهرت على الأثرة وحب النفس من ناحيةٍ والرضا من ناحية أخرى، وفي هذا الطور يدرك ابن الفارض أن الوصول الى المحبوبة الحقيقية والتحقق بشهود الذات لا يتحققان بالحياة النفسية، بل يتحققان بالموت، الموت الذي لا تبقى معه بقية من حظ أو مطمع في غرض، الموت الذي تخلص فيه النفس من كل العلائق". هو الحُبّ فاسلم بالحشا ما الهَوى سهلَ فما اختارَهُ مُضْنى به وله عقْلُ وعِشْ خالياً فالحُبّ راحتُهُ عَناً وأَوّلُهُ سُقْمٌ وآخرُهُ قَتْلُ ولكنْ لديّ الموتُ فيه صَبابةً حياةٌ لمَن أهوى عليّ بها الفضل نصحْتُك عِلماً بالهَوَى والذي أرى مخالَفَتي فاختر لنفسكَ ما يحلو فإن شئتَ أن تحيا سعيداً فمُتْ بِهِ شهيداً وإلاّ فالغرامُ لهُ أهْل فمن لم يمُتْ في حُبّه لم يَعِشْ به ودون اجتناءِ النّحل ما جنتِ النّحل تَمَسّكْ بأذْيالِ الهَوَى واخْلَعِ الحيا وخَلّ سَبيلَ الناسكينَ وإن جَلّوا وقُلْ لقتيلِ الحبّ وَفّيتَ حقّه وللمدعي هيهاتِ ما الكَحَلُ الكَحْل المرحلة الثانية عند سلطان العاشقين هي الفناء عن شهود سوى المحبوب فلوْ لفنائي منْء فنائكِ ردَّ لي فُؤاديَ، لم يَرْغَبْ إلى دارِ غُرْبَةِ ويَحسُنُ إظهارُ التّجلّدِ للعِدى، ويقبحُ غيرُ العجزِ عندَ الأحبَّةِ ويَمنَعُني شكوَايَ حُسْنُ تَصبّري، ولو أشكُ للأعداء ما بي لأشكَتِ وعُقبى اصطِباري، في هَواكِ، حمِيدَة ٌ عليكِ ولكنْ عنكِ غيرُ حميدة وما حَلّ بي من مِحنَة ٍ، فهومِنحَة ٌ، وقد سَلِمَتْ، من حَلّ عَقدٍ، عزيمتي وكَلّ أذًى في الحبّ مِنكِ، إذا بَدا، جعلتُ لهُ شكري مكانَ شكيَّتي في المرحلة الأخيرة يحلو الوصال عند ابن الفارض، فيقول عن هذه التجربة مصطفى حلمي عن الوصال بعد الفناء: "يعود إليه إدراكه بهذه الصفات التي تزداد وضوحاً لأنها تتحوّل إلى صفات روحية بحتة، ومعنى هذا أن أرقى أحوال الصوفية حالة إيجابية لا سلبية؛ لأنّ الصوفي يشعر فيها ببقائه لا بفنائه، ولكنه بقاء بالصفات الإلهية والأعمال الإلهية لا بصفاته هو وأعماله. فهو يظهر بين الناس بهذه الصفات والأعمال، لكنه يحتفظ لنفسه بالصلة الشخصية التي تربطه بالحق، ويشعر بأنه متحد به مع مخالفته تعالى للحوادث أجَلْ أجَلي أرضى انقِضاهُ صبَابَةً، ولا وصْلَ، إن صَحّتْ، لحبّك، نسبتي تهْ دلالاً فأنتَ أهلٌ لذا كا وتَحكّمْ، فالحُسْنُ قد أعطاكَا ولكَ الأمرُ فاقضِ ما أنتَ قاضٍ فعلّي الجمالُ قدْ ولاّكا وتلافي إنْ كانَ فيهِ ائتلافي بِكَ، عَجّلْ بِهِ، جُعِلْتُ فِداكا! وبما شئتَ في هواكَ اختبرني فاختياري ماكانَ فيهِ رضاكا فعلى كلِّ حالة ٍ أنتَ منيبي أولى إذْ لمْ أكنْ لولاكا وكفّاني عِزّاً، بِحُبّكَ، ذُلّي،وخُضوعي، ولستُ مِن أكْفاكا وإذا ما إليكَ، بالوَصلِ، عزّتْ نِسْبتي، عِزّة ً، وَصحّ وَلاكا فاتهامي بالحبِّ حسبي وأنّي بينَ قومي أعدُّ منْ قتلاكا لكَ في الحيِّ هالكٌ بكَ حيٌّ توفي سنة 632 هـ الموافق 1235م في مصر ودُفن بجوار جبل المقطم في مسجده المعروف باسمه حتى الآن.