صدرت، مؤخراً، موافقة مجلس الوزراء على تنظيم مركز دعم اتخاذ القرار.. المسألة ليست دعماً دعائياً للقرار الصادر لأن كلمة «اتخاذ» تعني بالأساس ما قبل صدور القرار.. فماذا يعني ذلك؟ وما المتوقع منه؟.. قبل الإجابة علينا المرور على أصل الفكرة وتجارب الدول. أصل الفكرة هي حاجة القيادي إلى معرفة مدى توافق قراراته الكبرى مع الرأي العام من ناحية تفهمه وفهمه لها، وكيف يتأكد القيادي قبل اتخاذه القرار أنه صائب أو مناسب؟ الإجابة، منذ القدم، بالحدس والحنكة ومشورة الحكماء والخبراء.. لكن المعنى الحديث أخذ منهج علمي من الناحية السياقية (تحليل البيانات والمعلومات) والنفسية (الفردية والجماعية)، للوصول إلى أفضل خيار ممكن. خلال القرن الماضي، حاول علماء النفس والاجتماع والأحياء، كشف أسرار التعاون الفعال بين القيادة والجمهور من أجل قرارات فعالة؛ ولعل أهمها ما أثارته حملة الحكومة الأمريكية أثناء أزمة اللحوم خلال الحرب العالمية الثانية لتعزيز استهلاك الأجزاء الحشوية (كالكرش والمصارين والكلي والكبد) التي كان استهلاكهاً مرفوضاً اجتماعياً.. جُند للمساعدة، عالم النفس كورت ليوين الذي اكتشف بتجاربه الميدانية أن الناس أكثر عرضة لتغيير عاداتهم إذا طرحوا أفكارهم في الموضوع علانية مع الآخرين مما لو أنهم ببساطة استمعوا لمحاضرات إرشادية. ليوين وضع «نظرية المجال» التي لا تزال تطبق، لكشف أنماط التفاعل بين الفرد وبيئته، وسبر أغوار القوى المؤثرة أثناء التحول.. وخلاصتها أن تطبيق القرارات يتأثر بالسياق الاجتماعي وأنه حتى أعضاء المجموعات المختلفة جداً في وجهات النظر سوف يعملون معاً لتحقيق هدف توافقي مشترك إذا تقابلوا لطرح أفكارهم. على مدى العقود اللاحقة، تطورت المعرفة سريعاً لكشف وسائل وآليات دعم صنع القرار، وظهر مصطلح «التفكير الجماعي» الذي صاغه ايرفينغ جانيس عام 1972 لوصف طريقة التفكير التي يدخل بها الناس للوصول لقرار يتجاوز دوافعهم الفردية أو الفئوية إلى اتفاق عام واقعي كأفضل الخيارات المتاحة. منذ ذلك الوقت عرفت الدول مراكز دعم اتخاذ القرار، بداية من أمريكا على المستوى العالمي.. وعلى المستوى الإقليمي أشهرها في مصر (1985م) والإمارات العربية المتحدة (1988م).. وعلى المستوى المحلي يمكن اعتبار هيئة الخبراء بمجلس الوزراء السعودي (1994م) أحد دعائم ما قبل اتخاذ القرار. قبل اتخاذ القرار هناك مطبخ أو مصنع لإصداره.. فقد يأتي وفقاً لرؤية القيادي نفسه مع مستشاريه أو بعد تقارير من مؤسسات متخصصة.. قد يكون قراراً منفرداً أو متسقاً مع قرارات أخرى عبر استراتيجية.. قد تكون القرارت ارتجالية أو مؤسسية.. سريعة أو متأنية حسب الحاجة وطبيعة المواضيع وحسب نوعية مؤسسات الدولة وثقافة المجتمع. في السعودية اعتدنا داخل الوزارات والمؤسسات الكبرى، قبل برنامج التحول الوطني ورؤية المملكة 2030، على صدور قرارات وفق منهجية ما يمكن تسميته التعاميم المنفردة، مثل أن يصدر الوزير قراراً لحالة معينة وفقاً لظرفها دون ربطها منهجياً مع قرارات سابقة أو الخطة الخمسية رغم أنها قد تتناغم معها نسبياً ولكن ليس في إطار محدد ضمن خطة عامة. مع تطور الثقافة الاجتماعية للإدارة وصدور رؤية المملكة 2030 وبرنامج التحول الوطني، وما لحقها من تنظيمات لدعمه وضبطه مثل نظام الحوكمة.. أتى قرار مجلس الوزراء في وقته المناسب بالموافقة على تنظيم مركز دعم اتخاذ القرار.. وخلاصته أنه يهدف لدعم اتخاذ القرار وكفاءته من خلال آليات تكفل صنع واتخاذ القرار المناسب وتطبيقه، ورصد وتحليل الأوضاع وإعداد الدراسات وجمع البيانات والمعلومات وتوفيرها للقيادات، والإسهام في تثقيف وتوعية الرأي العام حول القرارات والقضايا المثارة. يتم ذلك من خلال بناء شراكات مع الأجهزة الحكومية والقطاع الخاص.. واستطلاع اتجاهات الرأي العام تجاه القضايا والقرارات قبل وبعد صدورها، وإيجاد قنوات اتصال مع الرأي العام.. والتعاون مع مراكز البحوث وإنشاء قواعد بيانات. ما هو المتوقع من المركز؟.. أولاً المركز يأتي لتأكيد الإطار المؤسسي للخطة الوطنية وللمساهمة في تحقيقها، ومساندة صاحب القرار أو فريق صنع القرار قبل اتخاذه لمشاركة أفضل للرأي العام، وبعد اتخاذه للمساهمة في دعم القرارات أو مراجعتها وتنقيحها أو استبدالها بخيارات أخرى. عبر تسهيل قنوات الاتصال مع الرأي العام.. وللمركز مميزات أخرى مثل زيادة الرقابة التنظيمية لمتخذ القرار، التعجيل في حل المشكلات، اكتشاف أساليب جديدة للتفكير وفتح فضاء أوسع لحل المشاكل. أهم التحديات التي تواجه المركز هي فهم توجهات الرأي العام قبل اتخاذ القرار، وفهم ردود الفعل بعده.. وإيجاد الوسائل المناسبة لتوعية الرأي العام حول القرارات المتخذة والموضوعات المطروحة والقضايا المثارة. فأحد أكبر القضايا التي تواجه برنامج التحول الوطني هي فهم الموظفين الذين سيطبقونها والجمهور الذي سيتعامل معها، فهناك قرارات جديدة تتوالى قد لا يستوعبها الموظفون والجمهور. من المنتظر كذلك أن يحدد المركز القضايا ذات الأولوية وفقاً للجمهور وللحقائق على أرض الواقع، وليس فقط آراء الخبراء والمستشارين الذي قد يعيش بعضهم في برج عال. كما أن قدرة المركز على بناء شراكات مع مؤسسات في القطاع الخاص فضلاً عن مؤسسات حكومية سيكون أحد التحديات التي تنتظر المركز.