كان ألونسو كيخانو ذو الخمسين عاماً والمقيم بقريةٍ في إقليم لا مانتشا مولعاً بقراءة كتب الفروسية، كان يتنفّس تفاصيل أبطالها ويُصدِّق كل ما بها، حتى اختلَّ عقله لقلة النوم والطعام ودوام التوهّم، وقرَّر شدّ الرحال مرتدياً درعاً قديمة و خوذةً بالية ممسكاً برمحٍ فوق حصانه الهزيل كفارسٍ شهم ينتصر للضعفاء و يُحارب الأشرار والتي لم تكن سوى طواحين الهواء البائسة، واللافت أنه استطاع اقناع جاره الساذج سانشو بانثا بمرافقته مقابل أن يجعله أميرَ إحدى الجُزُر! تلك كانت شخصية دون كيخوتي التي أبدع بتصويرها الروائي الاسباني ميغيل دي ثيربانتس، وما دعاني لاستدعائها إلا كثرة الـدون كيخوتيات من مُدّعي الفكر والثقافة لدينا في عالمنا العربي والذين يتقمصون أدوار غيرهم وينطقون بكلماته ويدندنون بأفكاره حتى وإن كانت خارج السياق والمكان والزمان، وليس أكثر منهم سوى من يُصفّق لهم وتنطلي عليه سذاجاتهم ولا يملك من الفكر والمنطق ما يُميّز بين غثّ ما يُقال وسمينه من فئة سانشو بانثا! هناك كثرةٌ كاثرة من كُتّاب العرب ممن تقمّص أدوار مفكري التحرّر وشعراء التمرد على الظلم خلال القرن العشرين، فيتباكون على إعدام الشاعر الاسباني لوركا وهو يلقي قصيدته على يد جنود الديكتاتور فرانكو عام 1936 وهم ينعمون في بلادٍ آمنة، ويلهجون بنقل كتابات أنطونيو غرامشي السياسي الشيوعي الايطالي والذي مات تحت التعذيب في سجون موسوليني عام 1937 ويتباكون على ما دوّنه في دفاتر السجن وأغلبهم قد استدار بطنه لكثرة الأكل وطيب ظروف الحياة، ويتغنّون بنرجسية معتادة ما عرّف به الفيلسوف الفرنسي جوليان بيندا المفكّرين بأنهم جماعةٌ صغيرة من ملوكٍ حكماء يتحلّون بالموهبة الاستثنائية والحس الأخلاقي العالي، وقفوا أنفسهم لبناء ضمير الإنسانية وهم لا يعرفون من الضمير إلا اسمه! حكماء الغفلة هؤلاء لم يستطيعوا كما لم يستطع بيندا نفسه أن يوضِّحوا لنا كيف استأثرهم الله وحدهم بالحقيقة، ولا كيف أصبح ذلك الوهم الشخصي عقيدة يدافعون عنها ولا لماذا يتوجب أن يطعنوا في بلادهم ويجترّوا كوارث تمت بعيداً عنهم زماناً ومكاناً ليشنعوا بشعاراتها على أوطانهم التي لم يجدوا منها إلا الرعاية والأمان ولم تجد في المقابل منهم إلا سوء الصنيع وابتذال الفكر والبحث عن طواحين هواء لمهاجمتها! ليس المفكر الحقيقي من يتقمص دور غيره من مفكري الدول ذات الأنظمة الديكتاتورية التي تسوس شعوبها بالنار ويطوف الموت في أزقتها ليل نهار، ثم يحاول الحديث بلسانها ويُحاكي في ببغاويةٍ ساذجة طروحاتها التحررية وشعاراتها الثورية في مجتمعنا الذي يُحشَم فيه الكبير قبل الصغير ويعيش به الغريب قبل صاحب الدار في عيشةٍ كريمة آمنة. ليس المفكر من يرى نفسه كياناً مختلفاً عن مجتمعه، وليس المفكر من يفني أيامه محاولاً تعكير المياه وتصيّد العثرات والانتقاء الممنهج للأحداث وردود الأفعال تجاهها من أجل الوصول بمن يسمعه أو يقرأ له لنتيجةٍ قد قرّرها مسبقاً، وليس المفكر من لا يرى واجبه شد لُحْمة الوطن وزيادة تماسكه في الأيام العصيبة ولكن يزداد حماسه بشكلٍ غريب لإثارة الشكوك وتعظيم الأخطاء وتفتيت البنية المتماسكة للمجتمع والاحتفاء بكل ما يسيء للكيان الكبير مما يثيره أعداء الوطن وخصومه. هنا يكون قد كشف تماماً مع أي فريقٍ يقف! إنّ المفكر الحقيقي أشبه بالفلاح المحب لأرضه، فهو يتعاهد ما أمامه، إنْ وجد نبتةً ذابلةً سقاها أو سوراً مائلاً أقامه أو نبتةً طُفيلية أزالها، وليس ذاك الذي يتجول حاملاً أعواد الكبريت ليشعل النار في كل ما يجد بدعوى فساده أو عدم كونه وفق ما يراه صائباً، والمفكر الحقيقي هو من يستطيع مراجعة نفسه وموازنة أفكاره ونقدها بجدية قبل أن يملأ الدنيا انتقاداً لكل ما حوله لمجرد التشغيب ولفت الأنظار، وهو ذاك الذي لا يهرب من واقعه بالارتماء في أحضان الماضي واستدعاءه لأجل جلد الذات، وليس بذاك الذي يهرب بالتنصّل من ذاته وهويته وخصوصيته بمحاولة تقليد الآخر المتقدم دون تعقّل وعدم ذوبان تام في كيان غيره، والمفكر الحقيقي في أبرز تجلياته هو من يقيس الأمور بمعطياتها ومتلازماتها فلا يُطالب بوجود نبي في عالمٍ يعجّ بالخطّائين ولا يلهج بشتم الظلام كما يدّعي لكنه يُقدّس ظلاماً آخر يمون عليه، فحتى الحماقة أجلّكم الله تضحك عندما ترى المنبشين عن أي شِبه زلّةٍ لبلدانهم مهما صَغُرَت لكنهم يغمضون أعينهم عن استبداد سلطانهم الذي يطبلون له! مفكّرو الغفلة هؤلاء كثيراً ما يوردون مقولة ألكسندر سولجنستن:بالنسبة للدولة، أنْ يكون لديها كاتبٌ عظيم كأنْ يكون لديها حكومة أخرى، لذلك لم يحب أي نظام في أي وقت الكتّاب العظام، فقط التافهين، هنا يظهر الخيال الـدون كيخوتي في أسمى صوره وتقمّص شخصية البطل الذي يُعاديه السادة الكبار، هنا يتجلّى شعورٌ هائلٌ بالنقص ذاك الذي يدعو البعض للثرثرة بجُمَلٍ قيلت في مناسبة مختلفة وعالمٍ مختلف، فألكسندر قالها في السجن بعد أن انتقدت كتاباته حملات الإبادة اللا إنسانية واللا أخلاقية لستالين والتي تجاوزت الخمسين مليون إنسان ليكون أكبر جزّار في تاريخ البشرية، فليس جديراً أن يقولها من يركب سيارة فارهة ويقطن منزلاً جميلاً ويقيّظ كل صيف في ربوع أوروبا الباردة! إنّ من لا يعتبر نفسه جزءاً من نسيج مجتمعه لا يحق له أن يتحدث بالمثاليات الوطنية، ومن لا يقف ردءاً لبلاده وهي تُستهدَف من أعدائها لا يحق له يتكلم عن الصالح العام وبقية الكلمات الرنانة، ومن لا يعتبر نفسه أحد رُكاب سفينة الوطن لا يحق له أن يتشدّق بالنصائح والدروس المعلّبة، وكم كان صادقاً لينين عندما قال: المثقفون هم أقدر الناس على الخيانة لأنهم أقدر الناس على تبريرها!