ببلاهةٍ بالغة، تقترن بالبلادة الفكرية والعلمية والسياسية، ينظر صناع القرار العالمي إلى مشاهد الأسبوع الماضي في أمريكا وأوروبا، دونما قدرةٍ على الربط بين أسبابها ومآلاتها القادمة. ففي نفس اليوم، خلال الأسبوع المذكور، كان إرهابي مجنون يقتل أكثر من خمسين شخصاً في مدينة أورلاندو الأمريكية، وكان آلاف مشجعي كرة القدم يشتبكون كالحيوانات الضارية في شوارع المدن الفرنسية، بينما مئات الآلاف من الفرنسيين يخرجون في مظاهرات غاضبة ضد حكومتهم، سقط فيها الكثير من الضحايا. الأول يمارس القتل باسم فصيلٍ متوحش اسمه (داعش)، يدعي احتكار الإسلام. والمشجعون يتعاركون ببشاعةٍ تفتقر إلى الإنسانية باسم الرياضة. والمتظاهرون يعترضون، وأحياناً بعنف، باسم الحصول على حقوقهم في وجه قرارات اقتصادية يرونها ظالمة ومُجحفة بحقهم. وبينما الأصل في الإسلام، كما في الرياضة والسياسة، أن يكون مدخلُ التعامل مع الاختلاف والتنافس والبحث عن الحقوق بأساليب وممارسات سلمية لا علاقة لها بالعنف من قريب أو بعيد، يفرض العنف نفسه بشكلٍ متزايد اليوم على إنسان العصر في كل مجال، كوسيلة للتعبير عن مشاعره أياً كانت. فلماذا لا يفرض السؤال نفسه بجديةٍ في هذا العالم؟. ثمة مآسٍ كثيرة تملأ أرجاء الأرض اليوم. لكن المأساة الكبرى تكمن في افتقاد صناع القرار العالمي على الربط بين هذه الظواهر، ثقافياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وعلى قراءة قوانين الاجتماع البشري التي تحكم حصولها، وقراءة التاريخ الذي ملﱠ من تكرار دروسها. العنف هو العنف، لا يمكن الهروب من دلالاته في مكان وتأكيدها في مكانٍ آخر. وإذ يجري التأكيد الشديد على صفة العنف فيما جرى في أورلاندو، يندر التفكير والحديث عن معنى حاجة مشجعين للرياضة إلى العنف، والعنف الشديد، وهي المجال الذي يُفترض أنه أكثر فعاليات النشاط الإنساني سلميةً ومدعاةً للتواصل الراقي بين الشعوب. وفي حمأة توظيف السياسة لمصالح وأنانيات وأيديولوجيات شخصية واقتصادية فردية ومؤسسية دولية كبرى، يجري خلط الأوراق. وإلا فما معنى تلك المشاهد الدموية والاشتباكات التي تنم عن حقدٍ وعداوةٍ لا مثيل لها بين بشر يُفترض أنهم ينتمون لأوروبا التنوير والإنسانية والتسامح؟ وكيف يجري تمرير معاني هذا الحدث، كما جرى وسيجري بالتأكيد، بالتناسي والتلاعب بتسمية أسبابه ودواعيه بغير ما هي عليها؟. تصدقُ في هذا المجال افتتاحية نادرة يجدها المرء، بعد بحثٍ طويل، في موقع إعلامي إسباني باسم (كاطالونيا)، يقول فيها: «في الوقت الذي كانت فيه فرنسا محتضنة بطولة كأس أوروبا للأمم في كرة القدم، تملأ الدنيا بأخبار تشديد الحراسة والقيام بكل الإجراءات الاحترازية لمنع أي اعتداء (إرهابي) خارجي أو أحداث ينفذها مسلمون يوالون (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، جاء ما لم يكن تنتظره باريس ومعها باقي العالم. إذ بإرهابٍ من أبناء أوروبا يضرب البطولة، المتمثل في أعمال الشغب والصدامات الدموية بين جمهوري الهوليكانز الإنجليز والأتراس الروسي في مارسيليا. فلم يعد الأمر يتعلق بخلافات كروية عابرة، بل صار جدياً إلى الدرجة التي جعلت وزارة الداخلية الفرنسية والاتحاد الأوروبي يهددان بإلغاء البطولة إن استمر إرهاب الجماهير الكروية». على مستوىً آخر. يشتد الصراع الاقتصادي العالمي القائم على الجشع والاستغلال، فيختل ميزانه بين الدول المختلفة. يؤثر الأمر على فرنسا، فلا تقوم حكومتها بما عليها من سياسات لتُرضي مواطنيها. يخرج هؤلاء بمئات الآلاف في احتجاجات صاخبة، ليست وليدة اليوم بل مستمرة منذ شهور. يُلفلَفُ الوضع، كما سنرى، بعد أسابيع ببعض السياسات التجميلية، لكن الحل الرئيس يبقى في توجيه غضب الفرنسيين تجاه (البعبع) الأسهل: الأقليات التي (تنهب) أموال المواطنين الأصليين، ثم تشوهُ ثقافتهم الراقية. تنصبﱡ سهام الإعلام والسياسة على هؤلاء وتُوجه لهم سياسات التمييز والمضايقة والحرمان. تَصبرُ على هذا الوضع المأساوي ملايين تلك الأقليات، ثم ينفجر بسببه أفرادٌ بعدد أصابع اليد الواحدة. فتنسى فرنسا، ومعها العالم بأسره، كل ما سبق، ويجد العالم (المتحضر) نفسه أخيراً أمام المشكلة الحقيقية: الإرهاب الإسلامي! ويجد معه الحل الجذري لكل مشكلات الكرة الأرضية. قد يفهم المرء غياب ساسةٍ يربطون الظواهر ويقرؤون التاريخ، في نظامٍ دولي لم تعد ثمة علاقة له بأخلاق وثقافة وقيم إنسانية. لكن دلائل سير البشرية، الواضحة والحثيثة، نحو الفوضى الكبيرة القادمة تتجلى في تواري من يُفترض فيهم أن يكونوا حُراسها الحقيقيين، مثقفين وحقوقيين وخبراء وعلماء. waelmerza@hotmail.com