بداية انتهت الثانوية العامة وعلى مشارفها ابتدأ المشوار في البحث عن البلد الذي سيضمني بين أحضانه في سنوات دراستي الست أو السبع المقبلة، وإن كانت بلاد المغرب العربي قد كانت نصب عينيّ وملجأ مخيلتي بين التارة والأخرى، يوماً أتجول في صحرائها وآخر في أسواقها الشعبية أو حتى على ضفاف بحرها، وغيرها الكثير الكثير؛ مما زار مخيلتي ذات الأجنحة كثيرة السفر والتجوال، ولكن سرعان ما تطايرت أحلام اليقظة فوق السحاب مع الرياح تحملها إلى مخيلة شخص آخر لربما يعيش حلمي الآن يتذوق رمال المغرب وبحره ويكلم ناسه ويشاركهم حياتهم. على أي حال بعد كثير من الأحداث لم يعد للتخطيط أي معنى، تأكد بين ليلة وضحاها خبر سفري إلى النصف الآخر من العالم، إلى النصف الذي أردت زيارته دوماً، لكن لكل نصف شقان اثنان، ولم أتخيل نفسي أبداً بالشق الجنوبي منه، الشق اللاتيني. لم يكن وقع الخبر ساراً على أسماع عائلتي؛ بل أكاد أتذكر وجه أمي كمن ترى ابنها ينزلق من بين أصابعها ويسقط من على قمة جرف في نهاية العالم، ودموعها تودعه حتى أكله الضباب ولم تعُد تراه، على أي حال سمعت كثيراً من العبارات التي تصفني بالجنون ذلك اليوم، ورأيت وجوهاً تعلوها الدهشة والصدمة، وأحسست بخوف يسيطر على قلوب الحاضرين، لعله خوف مبرر فأنا -في نهاية المطاف- متوجه إلى أخطر عاصمة في العالم (كراكس). بعد مرور عدة أشهر حان موعد مغادرة البلاد وتوديع الأروقة القديمة التي كنت أمشيها يوماً بعد يوم، الأسواق، والأسوار العالية التي تحيط بالمدينة، والكنائس والمساجد والمعابد، ولن أنسى توديع شيء لم يكن يخطر لي على بال: المشي بسكينة وسلام وأمان بعد منتصف الليل في الشوارع الخالية تحت الأنوار الخافتة. غادرت المنزل يومها، وفي وداعي كانت عائلتي -الكثير من البكاء- واصطحبني والدي وشقيقي الأكبر إلى المحطة، وكان آخر وداعنا قبل أن أدخل إلى السيارة، أتذكر أن آخر ما قاله لي والدي يومها كان: "اتقِ الله"، حسناً ليس غريباً مع كل أفكاري اللادينية على أي حال... كانت آخر كلمة عربية سمعتها في مدينتي، أجمل بقعة على وجه الأرض (القدس). مرت عدة أيام حتى جاء موعد الطائرة التي ستصطحبني مع قرابة مائة طالب وطالبة غيري والكثير من الشخصيات العربية والأجنبية إلى بلاد العجائب والغرائب، تعرفت على بعض المغادرين معي في المطار، وقد كنت مع ثلاثة من أصدقائي الذين عرفتهم منذ سنوات عدة، جميعا كنا ذاهبين إلى بلاد لا ندري عنها الكثير، بلاد لا تمت بصلة لبلادنا أو ثقافتنا، كنا على موعد مع مغامرة، مغامرة ما زلنا نعيشها حتى الآن. بدأت المغامرة مع أول قدم لي وطئت أرضية الطائرة، وقد اسغللت بعض الوقت للتعرف على مَن كان معنا في الطائرة من سكان البلد المضيف، القليل من تبادل الثقافات، التحية، وبعض الكلمات العربية وأخرى إسبانية، كنا على موعد مع 15 ساعة من الطيران المتواصل، الكثير من الملل، والأفلام، والحديث، والخيال.. كانت مخيلتي تتنقل بين القدس والبلاد اللاتينية... شوقي لتراب بلادي لم يغادرني لحظة واحدة، ولكن نظرتي كانت إلى الأمام، إلى ما كان في انتظاري هناك، تلك البلاد التي لم أعرف عنها إلا البخس القليل الذي عثرت عليه على صفحات الإنترنت، يا ترى هل سأندمج مع ثقافتهم؟ كيف ستكون هذه البلاد؟ هل أهلها ودودون؟ والعديد والعديد من الأسئلة التي تناقلتها المسارات العصبية في رأسي كمن يلعب كرة القدم... ولكن هذه المرة كان توتري، وتحمسي، وخوفي وتفاؤلي، كل هؤلاء كانوا هم الكرة... انقضت الساعات الخمس عشرة، حطت الطائرة، بدأت الحركة، تفتحت الأبواب، وخرج النور منها، تقدمت رويداً رويداً، حتى وصلت إلى النور، تقدمت أول خطوة لي خارج الطائرة ونظرت.. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.