خناقة كبيرة شهدتها القاهرة هذا الأسبوع ، وإن كانت خناقة أصحاب كار أو المتخصصين في سوق الإعلام التليفزيوني ، وذلك بعد أن أعلنت شركة ابسوس العالمية المتخصصة في دراسات وأبحاث وقياسات الانتشار للمنابر الإعلامية تقريرها عن نسب المشاهدة للفضائيات المشاهدة في مصر وكذلك للبرامج وانتشارها ، وكانت الضجة بالأساس على أمرين كشف عنه بحث ابسوس ، الأمر الأول هو تبوأ قناة إم بي سي مصر السعودية لقمة الهرم الإعلامي على مستوى الفضائيات والبرامج ، وهذه فضيحة بدون أدنى شك ، أن تكون قناة غير مصرية هي الأولى في مصر نفسها ، متفوقة على جميع القنوات المصرية الخاصة والرسمية ، الأمر الآخر هو إظهار الدراسة أن قناة مكملين التي يطلقها الإخوان من خارج مصر تدخل في نطاق القنوات الأكثر مشاهدة في مصر ، لدرجة أنها تتفوق ـ حسب الدراسة ـ على قناة أون تي في التي اشتراها أحمد أبو هشيمة مؤخرا من ساويرس وعلى مجموعة قنوات تن التي أنفق عليها عشرات الملايين من الجنيهات في دعاية صاخبة واستقطاب عدد كبير من الإعلاميين المعروفين والفنانين والرياضيين ، وبطبيعة الحال ، جاء الكشف عن أن قناة الإخوان في الخارج هي الأكثر مشاهدة في مصر بمثابة صدمة أخرى ، فاضحة وكاشفة لما عجز الجميع عن إقناع صناع القرار به من قبل . الخناقة الأولى ، مع إم بي سي مصر ، تتعلق بسوق الإعلانات أساسا ، لأن ترتيب القنوات يستدعي ترتيب كعكعة الإعلان ، فلماذا يذهب المعلن إلى قناة يشاهدها نصف مليون إذا كان أمامه قناة يشاهدها خمسة ملايين ، ومن هنا جاء الغضب من دراسة ابسوس ، وهي بالمناسبة شركة عالمية متخصصة وتعتبر الثانية على مستوى العالم في دقة تقاريرها ومصداقيتها ، وكانت القنوات المصرية نفسها تلجأ إليها طوال الأعوام السابقة لتقييم الانتشار ، ولكنها انقلبت عليها بعد أن كشفت الفضيحة ، وعلى طريقة المثل الشعبي عض قلبي ولا تعض رغيفي ، كان هياج أصحاب القنوات المصرية ، لأن الدراسة ستعرض مكاسبهم من سوق الإعلان للخطر ، وبالتالي قدرتهم على الإنفاق والتسويق وصناعة برامج مكلفة ماليا . أما المعركة الأخرى ، وهي المتعلقة بقناة مكملين الإخوانية ، فهي معركة سياسية بالمقام الأول ، لأنها تعني أن الخطاب المعارض المتشدد يصل إلى الناس على نطاق واسع ، وأن ملايين المصريين يتابعونه بالفعل ، وأنه ـ بالتالي ـ مؤثر على توجهات الرأي العام ، وأن الإعلام الإخواني المعارض والمطارد في الخارج انتصر على الإعلام الموالي للسلطة والمدلل في الداخل ، ولذلك قامت حملة عنيفة ضد ابسوس وصلت إلى حد المطالبة بمحاكمتها أو إبلاغ النائب العام عنها بوصفها تهدد الأمن القومي ، وقال بعض أعضاء البرلمان أنها كشفت عن كونها واجهة للإخوان أو مخترقة منهم ، وهذا من توابع الهوس والهسس الذي أصبح نكتة يرددها العامة في مصر كل ما تتزنق قول اخوان . انتشار قناة مكملين يعود إلى نجاح عدد من برامجها ، وخاصة برنامج الإعلامي محمد ناصر ، والذي اكتشفت أنه منتشر جدا في مصر ومؤثر ويتابعه قطاعات واسعة حتى من غير الإسلاميين ، والحقيقة أني شخصيا لا أتابع تلك القناة كما لا أتابع غيرها إلا ما ندر ، فأنا من عدة سنوات وأنا كائن غير تليفزيوني ، ولكن هذا الانطباع علمته بنفسي في حوارات مع أصدقاء صحفيين وإعلاميين ومثقفين ومواطنين عاديين لا صلة لهم بالإخوان أصلا ، وأعتقد أن جزءا كبيرا من نجاح تلك القناة وتحقيقها هذا الانتشار الواسع حسب ما كشف عنه بحث ابسوس يعود إلى التضييق المتزايد على مساحات الحرية والحركة أمام الإعلام المحلي ، وعمليات الملاحقة المستمرة للصحفيين والإعلامين قضائيا أو المحاصرة سياسيا أو التهديد أمنيا أو صدور قرارات متوالية بحظر النشر في قضايا مهمة للرأي العام ، وبطبيعة الحال هذا يحاصر الإعلام الداخلي ، ولكنه لا يصلح للتأثير في الخارج ، فتصبح الفرصة أمام إعلام الخارج واسعة لملأ فراغ معلوماتي وسياسي يبحث عنه الناس ، ويبحثون عن إجابات لأسئلة مهمة لم يجدوها في الإعلام المحلي ، فضلا عن أن عمليات التطويع والاحتواء للإعلام المحلي جعل منه نسخا متشابهة ، سواء كانت صحفا أو قنوات ، وهو ما جعل الناس تزهد فيها ، وجعل القنوات نفسها تتجه إلى التنافس في المواد الترفيهية من مسلسلات وبرامج فكاهة أو مقالب ، لأن ميدان السياسة أصبح محرما أو غير مأمون العواقب ، فكان ترك هذا الفراغ هدية لإعلام الإخوان في الخارج الذي تمدد فيه واستقطب الملايين التي تبحث عن إجابات لأسئلة معلقة . غلبنا في محاولة إقناع صناع القرار في مصر ، أن العالم تغير ، والفضاء انفتح بما يستحيل غلقه أو تضييقه ، وأن العالم أصبح قرية واحدة ، وأن من يظن أنه سيخفي معلومة أو يمنع إجابة عن سؤال يشغل الناس هو واهم ، وأن التفكير في محاصرة الإعلام في الداخل لن يحل لك المشكلة ، بل سيعقدها ، لأن إعلام الداخل دائما يحترم سقفا لا يحترمه ولا يعبأ به إعلام الخارج ، وحرصك على محاصرة إعلام الداخل وقطع مصادر المعلومات عنه أيضا لن يفيدك بل سيفيد خصمك ، لأن المعلومة عندما تغيب تفتح الأفق أمام الإشاعة وأمام خلط الأخبار الحقيقية بالمختلقة ، والناس غالبا ستصدق هذا المزيج المختلط ، لأنها تدرك أن لديك ما تخفيه وتخاف من إعلانه . ابسوس دقت لكم ناقوس الخطر ، وكشفت عن أن الإعلام المصري ينهار ، وأن الإعلام الخارجي ، الخليجي أو الإخواني يتفوق ويكسب ، والعاقل لا يدفن رأسه في الرمال ويعيش في خزعبلات المؤامرات ، وإنما يدرس النتائج بعقلانية وشفافية ، لكي يضبط بوصلة سياساته ويتدارك أخطاءه. جمال سلطان المصريون