كبير المجلس: «وش رأيكم ياالربع نروح لديرة عض شليلك واركض.. يذكرون أن الربيع بها طيب، والغنم تشبع، وفلة حجاج!». الحضور: «رأيك مبارك..تم.. تم.. تم..»، تنطلق من أفواه الحاضرين بلا تفكير. الكبير: «صب القهوة يا ولد!».. هذا مشهد لا يكاد يخلو منه «مسلسل بدوي» تلفزيوني، وهو حقيقة مقررة في عقل الإنسان البدائي؛ لذلك لا تتحرك حياة البادية في كل صقع نحو الحضارة، بل هي حياة مكررة، تنتهي غالبا بمآس دامية، ولأتفه الأسباب؛ لأنّهم -غالباً- يقررون بسرعة، وبعواطفهم المندفعة قبل عقولهم، ووفق آراء فردية، ويفتقدون للتخطيط في حياتهم، ويقبلون أن يسيروا وفق حدود الواقع، من دون أن يغيّروا من أنفسهم ومن ثم من واقعهم! لا أدري لماذا كلما أتذكر سوء تخطيط مؤسساتنا أو غيابه، يحضر لي هذا المشهد؟، فهل ما زال يحكمنا هذا العقل الذي لا يعترف بالتخطيط؟، وهل ما ندرسه نظرياً يغيب عند الواقع العملي؟، وإلى متى؟، فالثروة المتدفقة لن تستمر مدى العمر، والوقت أكبر قيمة اقتصادية يُهدر بطريقة غير معقولة، فإذا أهدرنا الاثنين معاً، فماذا بقي؟. إذا كان التخطيط في بعض تعريفاته يعني: «تحديد الأهداف المراد تحقيقها، ورسم خطة السير إليها، وتحديد وسائل ذلك السير، مع وضوح التصور لما يُمكن أنْ يَحدُث أثناء العمل مِن المستجدات والتطورات، ووَضع ما يُناسب ذلك مِن طرُق التعامل؛ مِمَّا باتَ يُسمَّى ب(الخطة والخطة البديلة)، شريطة أنْ يستهدف ذلك أكبر قدر ممكن مِن المكاسبِ وأقلّ قدر ممكن مِن الخسائر»، فهل هذا موجود في مؤسساتنا؟، وإذا كان موجوداً، فماذا نُفّذ من تلك الخطط؟، ولماذا كلما جاء مسؤول جديد يهمل ما قبله، ويبدأ من منطقة الصفر؟، وهل المشكلة أن كل واحد منّا يرى أنّه أوحد زمانه عقلا؟، أم أنّ من سبقه لا يخطط بالفعل؟، وهل نحن بلا استراتيجيات وكأننا لا نعرف ماذا نريد؟، ثم ما دور هذه الوزارة التي سميت بوزارة التخطيط؟، أين هي؟، وأين دور الرقيب والمحاسب في الوزارات المعنية؟. لن أضرب أمثلة على النماذج الكبرى فهي من الوضوح بمكان، بل سأكتفي بنماذج آنية تعد بسيطة مقارنة بالتخطيط ذي المدى الطويل، وهي أخطاء سهلة مقارنة بغياب التخطيط الباني ذي الرؤية البعيدة، مثلاً: عندما يأتي وزير فيرفع سقف إقامات العاملين الأجانب، وبناء عليه ترتفع أجور العمالة، وتحصد من المواطنين أضعاف ما أخذ منهم، ويكون ذلك وسيلة لانتهازية كثير من العمال!، السؤال: هل وضع هذا الوزير خططاً تمنع هذه الفوضوية قبل أن يصدر قراره؟، هل درس هذا القرار بحيث يكون إيجابياً بدرجة كبيرة تعود بالنفع على الوطن والمواطن، من خلال وضع خطة مدروسة لمنع كثير من السلبيات التي يمكن حدها؟، أم أنّ قرارات مؤسساتنا تنظر إلى زاوية واحدة فقط؟. ومثال آخر: عندما تأتي منحة ملكية في زيادة الرواتب مثلاً، لن تجد الجهات المعنية اتخذت خطة تواكب هذه الزيادة، بل ستجد أن ما منحته الدولة ذهب لجيب التاجر مباشرةً، وعموما خطط حماية المستهلك في بلادنا تكاد تكون في حكم الغائب!، ولأضرب لكم مثلاً على مدينتي «عرعر»، فوزارة التجارة وحماية المستهلك غائبتان عن مشهد مضاعفة الأسعار، ورقاب الناس هنا في رحمة يدي التاجر، الذي إن لم يخش ضميره الفردي أو منافسه.. يفعل ما يريد!. وإذا جئنا إلى التعليم العام -مثلاً- فنظرنا إلى البحوث التي يكتبها طلاب الماجستير والدكتوراه في المجال التربوي ذي التطبيق المحلي، فلن نجد إجابة لسؤالنا: لماذا تُهدر هذه الأبحاث وتبقى حبيسة رفوف المكتبات؟ ألم يكن الأجدى الإفادة منها؟ أليس تقدم الأمم رهين تفكيرها وبحثها؟. وفي التعليم العالي لك أن تسأل بعض جامعاتنا عن سؤال تعجزك الإجابة عليه، فبعضها هرعت إلى منح درجات البكالوريوس في الانتساب بشكل متساهل فيه، بعضها يحصل طالبها على (30) درجة بطريقة غير مقننة، فما الهدف من ذلك، هل هو الكسب المادي؟، ومتى كانت رؤيتنا الجامعية مرتكزة بالدرجة الأولى على الربح المادي؟، ألسنا من يصنف الجامعات العربية وغير العربية، فلا يقبل كثيراً منها؛ بسبب تساهلها؟، ماذا نسمي حصول كثير من المنتسبين على درجات تفوق طلاب الانتظام مع أنّ الحصيلة العلمية أقل بكثير؟، وأنا هنا أقول البعض، أما المتفوق فيستحق!، وإذا كان هناك من يزعم أنني تجنيت فليحكم «قياس» بيننا، وليجري «قياس» اختباراته الدقيقة على بعض المخرجات، وسيتأكد!، ويبقى سؤال آخر وطيد العلاقة بعملية التخطيط في التعليم العالي: أين من راقب هذه الجامعات فحاسبها إن كانت مخطئة؟. ولك أن تتساءل في جهة أخرى عن أزمة ثغرة العقود في أغلب وزاراتنا مع المقاولين، التي سوغت لهم التباطؤ في العمل، وإهدار الزمن والمال، لماذا لم تعالج؟، وإلى متى ستستمر الشكوى منها، والجهات المعنية همها الفرجة؟، وإلى متى ستتوقف كثير من مشروعاتنا نتيجة جشع مقاول وتلاعب آخر؟، متى ستكون هناك حلول حاسمة؟، لماذا نحتفظ بأنظمة عقود مشروخة، لماذا لا تغير القديمة، وتصنع بنود دقيقة تحمي الوطن والمواطن؟، بل لماذا نحتفظ بأنظمة كثيرة في وزاراتنا تجاوزها الزمن، وظلت خالدة مقدسة لا تقبل التغيير؟.. أسئلة كثيرة يتخيّل المتلقي أنّ حلولها بسيطة لو كان هناك تخطيط، ومن المؤكّد أنّ غياب التخطيط يعني غياب النظام بأكمله!؛ مما يجعلنا ضحايا إدارة أزمة، ليس لدينا رؤية واضحة للمستقبل، ولا تحديد للغايات، ولا برامج للتنفيذ. مديرون وليسوا قادة وقال "أ.د.صالح بن سعيد الزهراني" -أستاذ بجامعة أم القرى-: لن أكون مبالغاً إذا قلت إنّ ضمور ثقافة التخطيط في حياتنا أحد أهم أسباب احتباسنا الحضاري، مشيراً إلى أن ثقافة التخطيط منظومة متكاملة تبدأ من الفرد مروراً بالمنظمة وانتهاء بالدولة، مؤكداً على أننا ضحايا إدارة أزمة، وليس لدينا رؤية واضحة للمستقبل، ولا تحديد للغايات، ولا برامج للتنفيذ، فمثلاً في تكويننا الأسري نفتقد لثقافة التنظيم في أبسط ممارساتنا اليوم، وانظر ما ذا يحصل في بيوتنا وشوارعنا ونحن نودع العام الدراسي أو نستقبله، ونستقبل رمضان أو نودعه كيف تتحول البيوت والشوارع إلى فوضى. وأضاف أنّ ما يحدث في المؤسسات والجامعات والوزارات يدعو للتأمل؛ إذ كل ما جاء مسؤول هدم كل ما فعل أسلافه، واستكبر أن يضيف على المنجز، أو أن يؤسس لرؤية استراتيجية تحدد نقاط القوة والضعف، والفرص، والتهديدات، والغايات، وبرامج التنفيذ، مبيناً: "لدينا مديرون وليس لدينا قادة؛ لأنّ المدير يغرق في المعاملات والتعاميم من الثامنة صباحاً حتى الثانية والنصف ظهراً، ولا يتوقف للحظة واحدة يراجع ثقافة المؤسسة، ويحدد أهدافها، ورؤيتها المستقبلية، ويخطط لبلوغ تلك الغاية بأقصر وقت وأقل جهد وتكلفة". شعار التغيير وأشار "د.الزهراني" إلى تجربة البلدان التي قفز بها تخطيطها، حيث إنّ الطالب في المرحلة الابتدائية يضع على صدره شعاراً أثيراً هو (2020)، وهو الشعار الذي وضعه "مهاتير محمد"، ويعني أنّه في هذا العام -أي بعد سنوات من هذا العام- تكون "ماليزيا" مكتفية ذاتياً من كل احتياجاتها، فلا تحتاج إلى الاستيراد بعد ذلك، وتتحول إلى دولة صناعية، وشرعت المؤسسات بتنفيذ هذه الرؤية، حتى هذا الطالب الصغير يدرك معنى هذا الشعار، ويتعلّم ويعمل من أجله، موضحاً أنّ الطالب لدينا يتخرج في الثانوية ويقف أمام بوابة الجامعة بلا هدف، ويمضي سنوات الجامعة، ولم يتغيّر في فكره شيء، ويتخرج وهو يفتقد لأدنى مهارات الحياة. ضبابية المستقبل ورأى "د.صالح بن زيّاد" -أستاذ بجامعة الملك سعود- أنّ الركض في مكان واحد، يعني غياب الرؤية إلى المستقبل، وانعدام التطلع إليه بطريقة منهجية، ومن شأن الرؤية الواضحة للمستقبل والتطلع إليه أن يقودان إلى رسم خطط للعبور إليه، واستراتيجيات للتمكين منه، مبيناً أن افتقاد الخطط والاستراتيجيات، والبدء من جديد بين حين وآخر يعني الافتقاد للرؤية، أو أنّ هذه الرؤية ضبابية ومضطربة وقابلة للاجتهاد والتغيير، موضحاً أنّ الرؤية للمستقبل العام للمجتمع في حقل الصحة، أو التعليم، أو الاقتصاد، أو غيره، لا يجوز أن تكون موضوع هوى ومغامرات فردية، يبنيها هذا حيناً، ثم يأتي بعده من يهدمها ليبدأ من جديد، مستدركاً: "الفردية ضرورية في الروح القيادية، وفي اشعال روح الحماس والتنافس، وفي الابتكار والإبداع، ولكن كل فردية قيادية ينبغي أن تندرج في الرؤية العامة للمستقبل، التي يتم حساب كل خطوة في اتجاهها بدرجة عالية من الصرامة والدقة". وقال إنّ الخطط التنموية والتطويرية تموت إن لم تكن خططاً مؤسسية تجاوز الفرد إلى المنظومة الإدارية، فالمؤسسة فكر وقواعد ونظام، وهي -هكذا- أكبر من الفرد، وأكثر رسوخاً وثباتاً، وإذا ما تصورنا أنّ فرداً يمكن له أن يحرك المؤسسة على هواه وكيفما شاء فإنّ مفهوم المؤسسة هنا ينتقض، وتصبح من شؤون هذا الفرد، كأنّها دكان أو مزرعة، مضيفاً: "يبدو لي أنّ المراوحة في المكان التي تَنْتُج عن هدم المسؤول لجهد سابقيه، أو بدئه الجهد من حيث بدأ سابقوه لا من حيث انتهوا، هي مسبَّب عن غياب الصفة المؤسسية التي تحتِّم على فردية المسؤول الاندراج داخلها، وتحريكها وفق آليات نظامية، وليس فرض هيمنته ونزواته عليها". وأضاف أنّ تدرج المسؤول في المؤسسة يعني أن يستوعب ما يحركها ويوجهها من رؤية إلى المستقبل وتطلع إليه، وهذا هو ما يحتِّم عليه أن يولي الخطط والإستراتيجيات المؤسسة لوعي المؤسسة انتباهه، وأن يحتكم إليها، لا أن يجعلها هي محكومة به، وقد يحتاج هذا المسؤول أو ذاك إلى بعض التغيير في خطط مؤسسته، وتصحيح بعض الطرق الإجرائية، ولكنه لا يستبعد الرؤية إلى المستقبل، ولا يهدم ما تم قطعه في سبيل بلوغها، فما يتم من تعديل وتصحيح هو من أجل تسريع التطوير أو تقوية خطواته وتعزيزها. غياب المحاسبة وأكّد "د.ابن زيّاد" على أهمية المراقبة والمحاسبة لبناء خطة ناهضة، معتبراً أنّ تصحيح ما يحدث من جريان في المكان نفسه، يكون بتفعيل المراقبة والمحاسبة العامة لأداء المسؤولين في القطاعات المختلفة؛ لأنّ من شأن الرقابة العامة التي تؤديها المؤسسات المحددة لهذه المهمة وعلى رأسها مجلس الشورى، إضافةً إلى الدور النقدية والتقويمي للإعلام حين يتجرد ويحسن النهوض بمسؤوليته مهنياً، حيث إنّ من شأنه أن يلفت المسؤول إلى أنّ هناك من يتابعه، ويحاسبه، ويملك أن يفرض عليه عقوبات وجزاءات، وأنّ عمله يخضع للمساءلة، والحساب للمساءلة سيفرز لنا الإخلاص والجدية. وقال إنّه ينبغي أن لا ينفصل الجانب التنفيذي لأحكام الرقابة والمساءلة عن الأحكام نفسها، فالمشكلة التي تبدو أحياناً أنّ أخطاء المسؤولين لا تتم محاسبتهم عليها، وقد نرى أحياناً أن إحسان مسؤول في مكان ما قد لا يختلف عن إساءة آخر؛ مما يقودنا إلى الإحساس بأهمية دور المؤسسات المدنية، بوصفها موقعاً للرؤية والفعل خارج السلطة التنفيذية، فتغييب هذه المؤسسات أو ضمورها وهامشيتها، أو التضييق عليها يؤدي إلى تغول المسؤول التفيذي واستبداديته. وأضاف أنّ المؤسسات المدنية يمكن أن تحمل من العلل ما يؤدي إلى التخلف، وتحويل النظر من المستقبل إلى الماضي حين تهيمن عليها التيارات الأصولية والماضوية؛ لذلك أصبحت التنمية في المجتمعات العربية فريسة لأسباب مختلفة، فإن سلمت من استبدادية المسؤول الحكومي فقد لا تسلم من الاختلاف المدني حولها، وإن سلمت من فتور العزيمة وضآلة الهمة لم تسلم من عدم وضوح الرؤية ومنهجيتها ودقة الخطط والاستراتيجيات المحققة لها. منتج ثقافة ورأى "د.عبدالله الحمود" –أستاذ الإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- أنّ الفردية وراء سوء التخطيط الذي تعاني منه مؤسساتنا؛ لأنّ التخطيط منتج ثقافة عمل وليس ثقافة عمل بحد ذاته. وقال إن العمل المؤسسي يحتاج بالضرورة للتخطيط بكافة مستوياته، وإذا فقد العمل المؤسسي وشاعت نزعة الثقافة الفردية في إدارة الأعمال لم يكن للتخطيط جدوى أصلاً، ومن هنا يضطر العاملون الفرديون للبداية غالباً من المربع الأول في كل مرة يتقلد فيها فرداً عملاً، ويؤثر هذا السلوك الفردي على المجتمع، حيث تنعدم تراكمية التجربة والخبرة، والمعرفة، وتسود الأنا، وتدخل قواصم كثيرة للعمل المهني المتجرد، وتحل محله النزعة الفردية والمصالح والمحسوبيات؛ نتيجة المرجعية الفردية المطلقة. وأضاف أنّه لا يمكن الخروج من هذا المأزق الوظيفي إلاّ بعمل جاد وشاق، يستند إلى رؤية ناضجة ومحددة، تبدأ بتقديم المصلحة العامة على المصالح الشخصية، والقبول بالرأي الجمعي، عوضاً عن شيوع الآراء الفردية، وجعلها المصدر الوحيد والأهم لصناعة القرار. نهاية التخطيط للفشل..! شدّد "أد.صالح الزهراني" على أنّه لا يمكن أن تتراكم لدينا الجهود وتتشكّل الثقافة التنظيمية، إلاّ من خلال رؤية واضحة للدولة تصيغها وزارة الاقتصاد والتخطيط، وتتابعها، وتقوّمها، ومحاسبة المقصرين في تنفيذها، معتبراً أنّ وزارة الاقتصاد والتخطيط تكتفي في نهاية العام بمخاطبة الجهات الحكومية لجمع منجزاتها، وتقدمها في تقرير سنوي لا يسمن ولا يغني من جوع!؛ لهذا سنظل في المربع الأول، ولن نتقدم خطوة،؛ لأننا لا ندري إلى أين نتجه؟، وما الطريق الذي سنسلكه؟، وما الجهود التي يجب بذلها للوصول إلى الشاطئ. وقال:"نحن نملك القدرة على تحديد الرؤية والغايات والبرامج في خمس سنوات، شريطة أن يكون لديوان المراقبة دور في المتابعة ولمجلس الشورى دور في المساءلة والنقد والمعاقبة، مشيراً إلى أن لدينا اليوم مشكلات كبرى ونحن نعالجها بحلول جزئية، وهي منظومة متكاملة ومترابطة كأحجار (الدومينو)، ولو استثمرنا هذه الثقافة وجنّدنا مراكز البحوث لخدمتها لتجاوزنا عثراتنا خلال سنوات معدودة"، منوهاً بأنّ التخطيط يقول: إذا فشلت في التخطيط فقد خططت للفشل!. تحديات خطة التنمية العاشرة يجري حالياً إعداد خطة التنمية العاشرة للدولة -التي تعد الحلقة الثالثة ضمن استراتيجية بعيدة المدى 2025م-، حيث تواصل المملكة في هذه الخطة التوجه الذي بدأ عام 2005م نحو تحقيق رؤية الاستراتيجية، ممثلة في مضاعفة نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2025م، وتحقيق قفزة نوعية في حياة المواطنين. وتواجه الخطة الجديدة جملة من التحديات، أهمها: أولاً: تعدد الشرائح المكونة لسوق العمل: يعاني سوق العمل في المملكة من التشرذم غير الصحي حيث تبرز الشرائح التالية: (1) قطاع حكومي يستوعب أغلب القوى العاملة الوطنية بأجور لا تعكس الإنتاجية، (2) قطاع خاص يعمل فيه المواطنون الذكور بأجور عالية نسبياً ووتيرة تنقل مرتفعة بين مؤسسات القطاع، (3) قطاع خاص يوظف الوافدين ويغلب عليه تدني مستوى المهارات وتدني الأجور وانخفاض وتيرة الانتقال بين مؤسسات القطاع، (4) قطاع خاص تعمل فيه المرأة بمعدلات مشاركة متدنية جداً. ومن الواضح هنا أننا بحاجة إلى إيجاد سوق عمل أكثر كفاءة واندماجاً وقدرة على إرسال الإشارات الصحيحة للمشاركين. ثانياً تنويع القاعدة الاقتصادية: نحن بحاجة إلى إنشاء صناعات تساعدنا في التنافس على المستوى العالمي خلال العقود القليلة القادمة. ثالثاً: جذب الشركات ذات الرسملة المتوسطة خصوصاً من الدول المتقدمة. فالدينامية العالية لهذه الشركات ومعدل استيعابها المرتفع للعمالة وقدرتها على نقل المعرفة؛ هي الصفات التي يحتاج إليها اقتصادنا في الوقت الراهن. رابعاً ترشيد الإعانات: فالإعانات، خاصة عندما تعطى لغير المستحقين، تحدث تشوهات كبيرة في الاقتصاد. وفي السنوات الأخيرة أصبحت تكلفتها على الاقتصاد، من حيث كفاءة توزيع مواردنا الاقتصادية، عالية جداً ولا يمكن تجاهلها. ونحن ندرك ذلك تماماً ونسعى لمعالجتها بحرص وعناية وبطريقة متزنة. إن التحدي الأكبر الذي يربط جميع هذه التحديات، يكمن في رفع مستوى إنتاجيتنا؛ فبدون أن نرفع مستوى إنتاجيتنا كمجتمع فلن يكون بوسعنا إنشاء صناعات قادرة على التنافس عالمياً والإسهام في تنويع قاعدتنا الاقتصادية. وما لم يكن لدينا عمالة سعودية أكثر إنتاجية فلن نستطيع تنفيذ الإصلاحات اللازمة لإنشاء سوق عمل أكثر كفاءة. وهذا هو ما يجعل تحسين الإنتاجية المبدأ الذي يشغل بالنا خلال مناقشة سياساتنا الهيكلية. إن الذين استمعوا إلى مداخلاتي خلال السنتين الماضيتين يدركون أنني لا أملّ من القول بأن التحدي الرئيسي الذي نواجهه هو كيفية رفع مستوى الإنتاجية. أي، كيف نضمن تعظيمنا لكفاءة توزيع الموارد في اقتصادنا بحيث يتم توجيه مواردنا نحو المجالات ذات الإنتاجية الاعلى. في تقديري هذا ليس خياراً، بل ضرورة وذلك لسببين مهمين: (السبب الأول) يتمثل في "النافذة الديمغرافية" التي نشهدها الآن. فالسكان السعوديون في سن العمل(15-64 سنة) يشكّلون حالياً حوالي 97% من إجمالي السكان -أي أكثر من حجم الفئات العمرية الأخرى-، و(السبب الثاني) أننا نعيش حالياً في قرية كونية (Global Village). إن الاقتصاد العالمي الحالي على درجة عالية من العولمة لا يقوى على مواكبته والاستمرار فيه سوى الاقتصادات القادرة على المنافسة عالمياً. فالمملكة، بوصفها الاقتصاد الأكبر في المنطقة، وبصفتها عضواً مؤسساً ونشطاً في مجموعة العشرين، تريد أن تظل لاعباً رئيساً على الساحة الدولية. ولن نسمح بأن ننكفئ على أنفسنا أو أن يتم تهميشنا، إذ إن ذلك يتعارض مع مصالحنا على المدى البعيد. - التجهيزات الأساسية: لا يخفى عليكم، فقد خصصت خطة التنمية التاسعة مبلغ 1.4 ترليون ريال (385 بليون دولار أمريكي) لتمويل المشروعات الرأسمالية، بزيادة قدرها (67%) مقارنة بخطة التنمية الثامنة، وذلك استمراراً للإنفاق الحكومي المتنامي على المشروعات. ويتمثّل التحدي الماثل أمامنا في كيفية ضمان كفاءة هذه النفقات. ويمكن القول، بعبارة أخرى، إن ذلك التحدي يكمن في كيفية التأكد من أن كل ريال ننفقه على هذه المشروعات يجلب لنا أكبر قدر ممكن من المخرجات. وهناك بعد ينبغي أخذه في الاعتبار فيما يتعلق بمشروعات التجهيزات الأساسية بدءاً بمرحلة التصميم، وهو تكلفة التشغيل والصيانة. يجب عليّ الاعتراف بأن هذا الجانب لم يحظ بالاهتمام الذي يستحقه في الماضي، إلاّ أنه لا ينبغي علينا الاستمرار في ذلك في ظل الحجم الكبير لمثل هذه المشروعات خلال العقد الماضي وربما العقد القادم. * جانب من كلمة معالي وزير الاقتصاد والتخطيط في مؤتمر مشروعات التجهيزات الأساسية الكبرى بالمملكة (الرياض- 17/9/2013م)