اعتاد المصريون حوادث السير لدرجة جعلتهم يعتبرون الحادث هيناً لو اقتصر على تهشم سيارة من دون وقوع وفيات، وأنه «قدر أخف من قدر» في حال وقوع إصابات، و «قضاء وقدر» إذا حدثت وفاة. ولأن متوسط عدد حوادث السير يومياً يبلغ نحو 43 بمعدل يزيد على 15 ألف حادث سنوياً، ولأن القضاء والقدر تفوقا على التوخي الحذر وتطبيق القانون، فإن صراخ المكابح على الأسفلت، وأصوات الارتطام لم تعد مصدراً للهلع أو سبباً للعبرة، فالحادث الذي لا يوقع قتلى لم يعد مصنفاً كارثة في المفهوم الشعبي. لكن أمس استيقظ المصريون على وقع حادث سير بشع راح ضحيته خمسة أشخاص وجُرح أكثر من 20 آخرين، على الطريق الدائري الذي ينعته بعضهم بـ «طريق الكوارث» تارة و «طريق الموت» تارة أخرى، حيث لا رقابة مستمرة أو وقاية منتظمة أو حتى توعية حقيقية. لوحات التوعية المرورية الشحيحة المبعثرة في أرجاء القاهرة الكبرى اختفت تحت وطأة الهجمة الإعلانية الشرسة لمسلسلات رمضان. كانت هناك حفنة من اللوحات العتيقة التي تشير إلى أن «القيادة فن وذوق وأخلاق» لكن أجزاءً منها تآكلت بفعل عوامل التعرية وصار ما تبقى مثيراً للسخرية أمام بشاعة الحال المرورية وقتامة الصراعات على أولوية الطريق ورهاب الاحتكاكات والاحتقانات بين ملايين المركبات التي يرفع قائدوها شعار «أنا ومن بعدي الطوفان» على مدار ساعات اليوم. أما اللوحات الحديثة والتي تحذر من أن السرعة تقتل وأن المحمول أثناء القيادة يشغل وأن عدم استخدام حزام الأمان يغرم فقد تهتكت وتبعثرت واستخدمها بعضهم مظلات تدرأ عنه حرارة الشمس. شمس حزيران (يونيو) القائظة وعجلة رمضان الضاغطة وإصرار مسؤولي المرور على أن تكون دورياتهم مقتصرة على التأكد من تاريخ الرخصة، أو الوقوف في الممنوع، أو حال طفاية الحريق، مع غض الطرف تماماً عن صنوف القيادة الجنونية المتهورة الهوجاء التي تقصف الأعمار على مدار اليوم، حولت شوارع القاهرة الكبرى إلى ساحات اقتتال رهيبة منذ بداية الشهر الكريم. ورغم الحملات المرورية التي نشطت منذ بداية الشهر، بظهور لضباط وجنود إدارة المرور في شوارع العاصمة بعد طول غياب، إلا أن العناصر المحفزة للحوادث ترتع حرة طليقة في كل مكان. فبين سيارات نقل بمقطورات على الطرق السريعة، وسيارات ميكروباص يعرف سائقوها شعبياً بـ «عفاريت الأسفلت» وأخرى مرخصة ملاكي لكن تعمل «سرفيس» نقل دخلت على خط الموت حديثاً لكنها تتقدم بسرعة الصاروخ، وأقرانهم من سائقي الأجرة الدخلاء على المهنة وسائقي باصات النقل العام الضاربين عرض الحائط بكل القوانين، وبالطبع مركبات «التوك توك» التي ترتع في شوارع المناطق الشعبية الرئيسة من دون أدنى رقيب، وبعض سائقي السيارات الخاصة المنتفعين من حال الحرية المطلقة في أساليب القيادة. وبإضافة حرارة الصيف القائظة مع ضيق صدر الصائمين ورغبة جماعية في إنجاز المشاوير وقطع الطريق في أقل وقت ممكن إلى ما سبق، تتحول الشوارع الرمضانية إلى قنابل تنتظر الانفجار على مدار الساعة. ساعة الصباح التي شهدت حادث الطريق الدائري المروع ضلع فيها ثلاثة من أبرز أبطال قنابل الطريق: سيارة نقل بمقطورة، وسيارة ميكروباص، وأخرى نقل صغيرة. مرتادو الطريق الدائري اعتادوا مشاهد الصراع اليومي والسرعات الرهيبة، وتناحر سيارات النقل الضخمة مع أقرانها الصغيرة، وتفنن قائدي الأجرة بأنواعها، لا سيما الميكروباص والنقل الصغيرة، في القيام بحركات بهلوانية ونقلات فجائية من أقصى يمين الطريق إلى أقصى يساره والعكس، ناهيك عن احتكاكات وصراعات مخيفة على أولوية المرور لدرجة اعتادتها الغالبية، ظناً منها إنها مشاهد عادية. ويؤكد ذلك رد فعل كثيرين على إعلان إدارة المرور قبل أيام تحرير 3906 مخالفات لسيارت كانت تسير بسرعات جنونية، إذ علق بعضهم ساخراً «وهل لدينا طرق أصلاً تسمح بالقيادة الجنونية؟» أو مبكتاً «أكيد أكثرهم سيارات ضباط شرطة» أو مندداً «أليس الأجدر أن يوقفوا هجمة السيارات الثُمن (النقل الصغيرة) والتوك توك والميكروباص والدراجات غير المرخصة؟». وفي مدخل إحدى العمارات السكنية في شارع شبرا الرئيس، اكتظ المكان بعشرات الدراجات غير المرخصة قبل أيام، إذ لجأ أصحابها إلى إخفائها إلى حين انتهاء الحملة المرورية في «دوران شبرا»، وذلك تحت سمع وبصر السكان الذين رأوا في إيوائها عملاً إنسانياً «لا سيما اننا في نهار رمضان». لكن نهار رمضان حافل بكل صنوف وأشكال المخالفات والانتهاكات رغم أنف الحملات المكثفة العائدة بعد طول غياب. وبينما تطبيق «بيقول لك» المخصص لتقصي أحوال الطرق من خلال قادة السيارات أنفسهم وبثها في برنامج على الهواتف المحمولة يتابع أمس حال الطريق في أعقاب الحادث المروع، إذ بحادث على طريق الإسماعيلية من العاشر من رمضان إلى العبور يسبب زحاماً شديداً و «حادث على الدائري من نزلة الصحراوي لطريق الواحات والأرض مغطاة بحمولة رمل» و «حادثة على كوبري أكتوبر في اتجاه التحرير». تحرير العقول من سطوة الفوضى في القيادة بات مسألة أمن قومي، لا سيما مع تعاظم مبرر «القضاء والقدر» على مسبب «الفوضى وعدم تطبيق القانون وموسمية تواجد ضباط إدارة المرور واختفائهم معظم الوقت». وإلى أن يتم ذلك، تقوم إدارة المرور بعلاج المشكلة، لكن من منطلق أكثر واقعية وحداثة. فقبل أيام أعلنت منظومة جدية لإزالة حطام الحوادث المرورية التي تقع على الطرق السريعة نتيجة انقلاب سيارات النقل الثقيل أو المقطورات، والتي تتسبب في عوائق مرورية. ووفق المنظومة الجديدة، ستتم إزالة حطام الحوادث في أقل وقت ممكن تفادياً لحدوث تكدسات مرورية، ولتمكين من بقوا على قيد الحياة من استكمال رحلتهم على الطريق، وذلك إلى حين إشعار آخر.