مثلما كانت الأنظمة الثورية والشمولية العربية ترفع في ستينات القرن الماضي شعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) دلالة على أن المعركة مع إسرائيل لها الأولوية على كل شيء: على التنمية وعلى الحرية وحتى على الكرامة الإنسانية، وأن يكون من حق النظام أن يمارس القمع والتسلّط ودكتاتورية الفرد الحاكم، إذ مجرد التفكير بالديمقراطية والمشاركة السياسية وغيرها من أساليب الحكم الرشيد يعد ذلك تآمراً وخيانة للوطن وعمالة للصهيونية، ولأن جميع الأصوات قد أسكتت أو خُنقت بعد قتل أصحابها، فقد انتهت المعركة بهزيمة مخزية سلّمت جميع أرض فلسطين للكيان الإسرائيلي ومعها أراضي أربع دول عربية سوريا والأردن ولبنان ومصر التي استطاعت بحرب أكتوبر وبالعمل السياسي تحرير أرضها، فيما لا تزال بعض أراضي الدول الثلاث محتلة، وإن استطاع الأردن أن يعيد جميع أراضيه، وإن ظلت الأراضي الفلسطينية التي كان يديرها محتلة وبعض الأطراف الأردنية في الأغوار وغيرها تخضع للسيطرة الإسرائيلية. لا صوت يعلو فوق صوت المعركة أوصلنا إلى هذه النتيجة المخزية، والآن يرفع شعار آخر ويمارس فعلاً أكثر خطورة وستكون آثاره أكثر تدميراً على مستقبل أمتنا الإسلامية وليست العربية كما تسبب الشعار الأول. الآن لا صوت يعلو على مواجهة الإرهاب، ولكن أي إرهاب؟ بعد الذي صنع القاعدة وجماعات التحزّب الإسلامي، وضعت ماركة محددة للإرهاب، إذ حصر الإرهاب بالمسلمين وبمكون محدد من المسلمين مع إصرار على تبرئة المكون الآخر حتى وإن فاقت أعمالهم جرائم وإرهاب المكون المستهدف. نعلم ويعلم كل من يبحث عن منشأ الإرهاب من الذي أنشأ القاعدة ومن أطلقها وقبلها من الذي أنشأ وأقام جماعة الإخوان المسلمين، وأي مخابرات غربية تبنت (الرحم الإرهابي) الذي حرّف الدين وحوّله إلى منظمة حزبية تولّدت من رحمها كل الجماعات والمنظمات الإرهابية إلى أن وصلنا إلى تنظيم داعش الذي مُكّن ليواجه ويسقط جيوش دول قائمة كما فعل في العراق وسوريا. نعم نمت هذه المنظمات والأحزاب الدينية وترعرعت في أوساط شباب المكوّن الإسلامي الأكثر التزاماً، إلا أن ذلك بفعل فاعل ساهمت به وعملت له مخابرات دولية لا تزال توجه وتقود فيما تشن في نفس الوقت معارك لقتال مَن أوجدتهم وربتهم. الجميع يعرف من أقام وأطلق القاعدة وداعش، والجميع يعرف أيضاً الأهداف التي كانت وراء ذلك، وجميعهم يتحدثون عن ضرورة مواجهة إرهاب القاعدة وداعش، وهو حقاً لا يختلف معه أحد، ولكنه حق يُراد به باطل. باطل لأنهم ورّطوا شبابنا وغسلوا عقولهم ليدفعوا بهم لاعتناق فكر ضال، ليرتكبوا أعمالاً تصاعدت حتى أصبحت ركاماً من الإجرام والإرهاب والقتل الذي أعطى المبرر لظهور الإرهاب الآخر، الذي أعطى المكوّن الطائفي الآخر للقيام بالرد، وكما أن رد الفعل لا يتم إلا بفعل مواز بالقوة، استدعى الإرهاب ليكون مواجهة الإرهاب بالإرهاب، بل في أحيان ووقائع أكثر إرهاباً حجماً وفعلاً وتأثيراً. وهكذا انقسم الإرهاب الإسلامي، إن جاز لنا استعمال هذا المصطلح غير الدقيق، إلى إرهاب إسلامي سني، وإرهاب إسلامي شيعي، ولكن لأن الأهداف والتوجهات ومَن صنع الإرهابيين يسعى إلى تحقيق هدف ما، أصبح لدينا إرهاب مسكوت عنه، أو على الأقل يُغض النظر عنه وإرهاب تُضخّم أعماله ويجري الحديث عنه بإسهاب، وهو الذي يجب ألا يعلو الحديث عن محاربته. وهذا الفرق بين إرهاب السنة، وإرهاب المكوّن الآخر. كيف؟ نواصل غداً..