مقدمة: لئن كانت القيم الإنسانية تُكسب صاحبها مفتاح قلوب الناس والمجتمع، وتضفي على المتخلق بها حُلة من القبول والهيبة والتقدير، ولا سيما ذات البعد السياسي والاجتماعي منها؛ فإن أثر هذه القيم الإنسانية وإشعاعها يتفاوت حسب مواقع الناس من المسؤولية والسلطة والجاه، وباختلاف مكانتهم من المجتمع، وحجم دورهم الإشعاعي وتأثيرهم في الشعوب. بيد أن هذه القيم تدرك أوجهاً عديدة، وتبلغ أشدها وكمالها في رسل الله وأنبيائه والصالحين، ثم تتدرج نزولاً إلى من هم دونهم؛ لتبلغ حدها الأدنى في الإنسان العادي. والأنبياء أنفسهم ليسوا في الفضل سواء، وهذه حقيقة يؤكدها القرآن الكريم بقوله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات} (البقرة: الآية 253)، فالقيم الإنسانية في أولي العزم وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى -عليهم السلام- أقوى منها في غيرهم، لكن محمداً خاتمهم ذهب من هذه الصفات الإنسانية والخلقية بأوفى حظ وأوفر قسم، وبشهادة القرآن، الذي قال فيه: {وإنك لعلى خلق عظيم} (القلم: الآية 4). إن هذا الرصيد الضخم من الثروة الأخلاقية والقيم الإنسانية العالمية التي جعل اللهُ ذاتَ المصطفى وعاء لها ومستودعاً لاختزانها، مستمد كله من الوحي، ومن التجربة النبوية؛ في تعاطيها مع القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية التي تشغل بال المجتمع، وهذا ما أكسبه تعاطف أعدائه، بله أقربائه وأحبائه. لقد تمثل رسول الله القيم الإنسانية وترجمها إلى سلوك عملي متحرك وملموس، كان أرقى نموذج لسيرة نبي مصلح، وقائد سياسي محنك، ومربٍّ مخلص، ومحارب شجاع. فلم تكن تلك القيم مجرد مثاليات استعصت على التطبيق؛ بل كانت صفات واقعية متجسدة في حياته كما في حياة أصحابه، وبها نُشرت دعوته في ربوع الدنيا فأنتجت تاريخاً وحضارة أبهرت العالم من حوله. بناء على ما تقدم، نجد أن هنالك إنجازات مهمة في حياة هؤلاء العظماء، مرتبطة بالنظام السياسي، القائم على أساس المبادئ والقيم الدينية، والتي أعتبرها جديرة بالدراسة والتأمل. إن المبادئ والقيم الدينية السياسة تمثل عنصراً حيوياً، مرافقاً للإنسان في حياته وشؤونه على الدوام، وإن تنظيف العمل السياسي وجعله يرتكز على مبادئ وقيم مثلى كان دائماً من أهداف الدين وأولوياته. كانت هذه مقدمة لهذه الدراسة التي سأحاول تقسيمها لفصول، كل فصل سيتحدث عن مبدأ من مبادئ التدبير السياسي المحكم والعادل، الذي تمثله الأنبياء والمصلحون والقادة السياسيون، وتشبعوا بقيمه العليا، وهم يدبرون أمور رعيتهم، من موقع المسؤولية السياسية، فأحدثوا بذلك ثورة وانقلاباً عظيماً لصالح شعوبهم، فعاشوا في رفاه وسعادة، ولا زال العالم يستفيد منهم ومن نظمهم ومناهجهم في تدبير أمور الدولة والدين. مبدأ القوة والأمانة: سنعيش مع أول مبدأ في التدبير السياسي المحكم، وهو من المبادئ المُحكمة في أبواب المعاملات السياسية، وتدبير شؤون الناس، هذا المبدأ استقيته من قاعدة قرآنية، وهي قول الله تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين} (سورة القصص: الآية 26). هذا المبدأ جاء في قصة نبي الله موسى -عليه السلام- مع رجل صالح يقطن منطقة مدين، وكان عاجزاً فخرجت ابنتاه للسقي الماء، لكنهما تأخرتا انتظاراً لصدور الناس عن البئر، إلا أن مروءة موسى وشهامته حملته على أن يبادر بقضاء حاجتهما، فسقى لهما، فأعجبَ هذا الفعلُ الفتاتين، فذكرتاه لوالدهما المُقعد، فأرسل في طلبه، قالت له إحداهما: {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين} (سورة القصص: الآية 26)، وهذا التأكيد على هذين الوصفين "القوة والأمانة"، هو من نضج عقل هذه الفتاة، التي رأت اكتمال هاتين الصفتين في موسى عليه السلام. وكأن كلمة القوي تشير هنا، إلى الكفاءة في التدبير، وامتلاك قدرات عقلية وخبرات فنية كبيرة، يعرف بها دقائق الأمور، وقواعد حل المشكلات، لكن يظهر لنا أمر آخر هو: أن الخبرة والكفاءة، والتجربة الطويلة، لا تكفي وحدها لتدبير وإدارة الشؤون، فالاتصاف بالأمانة مع الخبرة والكفاءة العلمية تكتمل مبادئ التدبير في الرجل الذي يشرف على شؤون الناس. وهذا من المبادئ والمطالب التي يتفق عليها عقلاء البشر في كل أمة، وفي كل شريعة من الشرائع؛ فكلما كانت المهمة والمسؤولية أعظم في رعاية الناس وتدبير شؤونهم، كان التشدد في أن تتحقق صفتا القوة والأمانة أكبر. والمتأمل في القرآن الكريم سيجد أن هناك تلازماً ظاهراً بين صفتي هذا المبدأ؛ نظراً لارتباطهما بالتدبير المحكم والرصين، الذي يجب أن يكون صاحبه قوياً وأميناً؛ ومن ذلك: ما وصف الله به مبلغ الوحي والرسالات جبريل عليه السلام؛ في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين} (سورة التكوير: الآيات 19-20)، فوصفه الله بالقوة والأمانة، وهما من أعظم عناصر النجاح والكمال فيمن استُخلف لكي يؤدي عملاً مهما تترتب عليه نتائج وآثار. ومن ذلك أيضاً، قول نبي الله يوسف عليه السلام لملك مصر: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} (سورة يوسف: الآية 55)، يوسف -عليه السلام- لما من نفسه أنه يتوفر على الكفاءة العلمية والخبرة الميدانية، طلب من المَلك أن يكون على رأس هرم الدولة في التدبير الاقتصادي. ولا يخفى أن إدارة أموال الدولة تحتاج إلى هذا المبدأ، ولهذا أبرزَ يوسفُ هاتين الصفتين، ومدح نفسه بهما؛ لأن الوضع الاقتصادي آنذاك يقتضي مبادرة في ضبط إدارة أموال الدولة، خصوصاً وقد كانت مقبلة -بحسب الرؤيا- على سنين عجاف، تحتاج إلى حكمة وتعقل. وتأكيداً لهذا المبدأ، فورد أن عمر بن الخطاب حينما كان خليفة للمسلمين، أبدى دهاء سياسياً قل نظيره، وذكاء خارقاً في تعيين مسؤولي الأمصار، آخذاً بعين الاعتبار مبدأ القوة والأمانة في اختيار وُلاة المدينة، الذين يجب أن يتصفوا بهذا المبدأ، وهم يدبرون شؤون رعيتهم ويحرصون على التفاني في خدمتهم؛ فقد عين والياً على ولاية، وأعطاه كتاباً، قال فيه: خذ عهدك، وانصرف إلى عملك، واعلم أنك مصروف على رأس سنتك، وأنك تصير إلى أربع خلال: إن وجدناك أميناً، ضعيفاً، استبدلناك لضعفك، وسلّمتك من معرفتنا أمانتك. وإن وجدناك خائناً قوياً، استهنّا بقوّتك، وأوجعنا ظهرك وأحسنا أدبك. وإن جمعت الجُرمين، جمعنا عليك المضرّتين العزل والتأديب. وإن وجدناك أميناً قوياً، زدناك في عملك ورفعنا لك ذكرك وأوطأنا لك عقبك. هكذا كان يشترط عمر مبدأ "القوة والأمانة" في تعيين مسؤولي الدولة، ويدقق معهم في كل صفاتهم وأخلاقهم ومبادئهم. سُقنا هذه النماذج والشواهد كأمثلة على حسن إدارة سياسة الدولة، التي تحتاج إلى معرفةِ أهميةِ وخطورةِ المسؤولية الملقاة على عاتق كل من له منصب أو دور سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي، وجب عليه أن يتصف بمبدأ القوة والأمانة، لكي يكون له تدبير حكيم، مؤسس على الكفاءة والخبرة المهنية وعلى القيم الإنسانية النبيلة. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.