كان يتجوَّل متململاً بين طرقات قريته القديمة، يركل الحشائش وكل ما يصادفه بقدميه العاريتين، سنوات التعليم بالنسبة له كانت قد انتهت، بعد أن فشل مرتين في الحصول على شهادة الثانوية، ليصبح الطريق صديقة الوفي الذي يحتضنه في أي وقت يشعر فيه بالضيق، أو بالفراغ ليطلق لنفسه العنان ويفعل ما يحلو له بعيداً عن أعين والده، الرجل المحافظ الذي يخشى الله حتى في الطائر الذي يحط وسط منزله، و يحرص على أن يوفِّر له ماءً أو حباً ليلتقطه في أي وقت، حين زاد عبء الحياة على الأب، كلَّف ابنه بإحدى مسؤولياته التي كان يخشى أن يتأخر عن القيام بها لانشغاله الدائم في الحقل، ليبدأ الابن بتولي مهمة توصيل الطعام والماء إلى منزل عمته المُسنَّة كل يوم، في اليوم الثاني لتوليه تلك المهمة ضلَّ طريقه ليجد نفسه على أطراف القرية حائراً، استوقفته قافلة كانت في طريقها لقرية مجاورة طلبوا منه شيئاً من الماء والطعام الذي كان يحمله على عربة صغيرة، وحين ظهرت عليه علامات التردد، وضع أحدهم بيده بعض الأوراق النقدية التي أصابته بذهول، فمدَّ لهم يده بالطعام على الفور دون أن تخطر عمته على باله تلك اللحظة، وفي طريق عودته اشترى ما كانت تشتهي نفسه من السكاكر والحلويات، وبعد أن استمتع بتناولها تذكر، فتسلل إلى منزل والده الذي كان يقضي النهار في الحقل، وأخذ مزيداً من الطعام والماء، وذهب بها إلى منزل عمته، وفي اليوم التالي كان يقف بنصف طعام عمته على أطراف القرية، وبعد يومين مرت قافلة أخرى تطلب الزاد، فمد يده هذه المرة يطلب المال أولاً، انتبهت العمة من النقص وظلت طوال الوقت صامتة لا تشتكي بل كانت تستحي أن تسأل أخاها السبب وظلت تشكره وتحمد الله حين يزورها كل جمعة، في نهاية ذلك العام تحوَّل الفتى إلى محترف في اللصوصية، حيث لم يكتف بسرقة طعام عمته، بل أدمن سرقة محصول الحقل الذي ائتمنه عليه والده، حين تطوَّع لمساعدته أثناء عملية تعبئة المحصول في صناديق لبيعها في صباح اليوم التالي. بعد فترة انتقل إلى المدينة ليفتتح أول محل له ببضاعة والده (المسروقة)، وذلك بعد أن تمكن من إقناعه بتوظيف عاملين لمساعدته في الحقل الذي كان يُنهب يومياً لتمويل محلات الابن في المدينة، بعد سنوات قليلة انتشرت فروع لمحلاته وكثرت أمواله، فاشترى مصنعاً كبيراً ونصَّب نفسة مديراً تنفيذياً، ولم تكن فرحته تسع الأرض حين حضر إلى المصنع في اليوم التالي وهو يرتدي (بشتاً) رداء من النوع الفاخر الذي كان يُعد بالنسبة له (أيقونة الوجاهة الإدارية). وفي نهاية السنة فتح مجلساً يستقبل فيه البسطاء و يــوزِّع من خلاله الصدقات وما تجود به نفسه السخية أمام الناس التي كانت تتقاطر على تقبيل يده من شدة العوز والحاجة، لتنتشر صور لقطاته الخيرية على شــبكات الإنترنت، فتجد له صوراً تــوثق توزيعه وجبات وملابس لعــمال النظافة، و أخرى وهو يتجوَّل بحــذائه اللامع وسط الأحياء الفقيرة، التي يتوقف فيها فجأة (وكأنها صدفة) أمــام صــبية يلعبون الكرة، ليلعب معــهم (ماتش) جبر خاطر، وحين ينتهي يحرص على أن تكون اُلتقطت له عدة صــور وهــو يصــافح الــصبية ويقــدم لهــم علباً مغلَّفة في ورق ملوَّن، وفي المساء تضج شبكات التواصل مراراً وتكراراً بتداول هذا المقطع التاريخي. حين يرتكب الإنسان جريمة أو ذنباً وإن لم يعترف به داخل نفسه، سيظل يشعر طوال عمره بشيء من الضيق، مهما يصل لمراكز عُليا سيظل شيئاً ما داخله يُنغِص عليه حياته، لأنه لا يستطيع مداراة دناءة نفسه من نفسه، فإذا كذب مرة واحدة فقط كذبة صغــيرة ستستمر الكــذبة لتكبر معه، ويضطر إثر ذلك إلى تطويرها في كل موقف يصادفه، وفي لحظات كثيرة يُصدِقُها ويجــادلك وهو يعرف بأنه كاذب، ولو شك بأنك لا تُصدقه فلن يتوانى من الدخول معك في مناظرة عجيبة، لكي يثبتُ للجــميع، و لك صدق كِذبته التي تجرأت و شــككت فيها لحظة! وإذا سَرق شيئاً صغيراً حين كان صغيرا، فسيُبرر لنفسه حين يكبر على الفور بأنه كان صغيراً، ولكن سيعجز أن يجد مبرراً لنفسه عن سبب لاستمراره في السرقة، وهو كبير! وفي هذا الزمن لا يوجد لص صغير أو كبــير، بل ربما صادفنا لص ظريف، ولــص كريم، ولص لئيم، ولكن في النهاية كلهم لصوص، ويبقى اللص الوقح الأكثر خطورة لأنه ( قوي عين ) ولا سقف له، ولا يجرؤ النــاس عــادة على مواجهته خوفاً من بطشه و احــترافه العالي على تلفيق أي تهمة لك.. لكــي يثــبت صدق كــذبته.