قبل أن أغادر مرحلة دراستي الجامعية بأمريكا أحتاج أن أعرج على أمرين. الأمر الأول ينصب على البدايات الأولى لدراستي الجامعية ببيروت. وهذا الأمر ربما أؤجله لعودة أخرى لو قدر لهذه الكتابة من سيرة الدراسة والعمل أو ما سميته بزهرة العمر أن تكتمل بما قد يسمح في مرحلة،، لاحقة بتجسير ماسكتُ عنه من فجوات التجربة أو ما تركته كفراغات مواربة أو شاهدة على غياب متعمد أو حضور مموه بمسحة من الغموض. الأمر الثاني يتعلق بتجربتي التعليمية نفسها بأمريكا.وفي هذا الأمر سأمر بالمزيد من ملامح تلك التجربة التعليمية مما كنت قد لامست بعضه في حديثي عن علم الاجتماع وأساتذتي في ذلك التخصص وولعي الشعري دراسيا وهو مع ما توقفت فيه عند انعكاسات طبيعة المرحلة السياسية الاجتماعية بأمريكا على تيارات الفكر الأكاديمي ونشاطاته الصفية واللاصفية. أما هنا سأتناول التجربة التعليمية من زاوية أخرى غير زوايا البصر السابقة. أريد أن أتناول التجربة التعليمية بمعناها المعرفي العميق وليس بالمعنى البرجماتي لعملية التعليم الجامعي. فبالمعنى الأخير يصبح الحديث عن التجربة مجرد تسجيل لمجمل التجربة ولمعطاها الغائي أي النتيجة النهائية التي تتوجت بالحصول على شهادة جامعية في تخصص علمي في مجال من مجالات العلوم الإنسانية أو الطبيعية. أما تناول تجربة التعليم الجامعي بالمعنى المعرفي العميق فيصير حديث الروح عن طبيعة تفاعل العقل والوجدان والمرجعية الثقافية والجسد والشعور واللاشعور مع العلمية التعليمية كتجربة إنسانية عميقة على مستوى معرفي وحياتي. وكذلك حديث عن الشغف والتحديات العقلية والقيمية والفكرية والعاطفية التي لابد أن تواجهنا في أي عملية تعليمية لا يكون الهدف منها والطريق إليها إلا الحصول على درجة علمية بأقل تغيير, وبأقل تفاعل وبأقل تحدي ممكن وأكثر الطرق حيادية وأقلها قلقا. وللتوضيح فالفارق بين نوعي التجربة كالفارق بين من يمشي بمحاذاة البحر وبين من يرتمي في أحضان الماء ويواجه احتمالات الغرق ويقبل الخوض في تحديات التجربة بجروحها ومنجاتها.