يقف العابر في شارع سورية في طرابلس مذهولاً. لا دشم ولا مسلحين. سيارات تعبر الشارع من سوق الخضار الى الملولة صعوداً الى سكة الشمال بهدوء. لم تعد الطرق الملتوية بين منطقتي «باب التبانة» و «جبل محسن» محظورة. أزيلت الدشم والسواتر التي أقامت حدوداً «عسكرية» بين أهالي منطقتين تصاهروا في زمن آفل، وأنشأوا معاً مصالح مشتركة، بدءاً بمصانع الخياطة التي ازدهر عملها في بداية الستينات من القرن الماضي، وتوقف عملها في بداية الثمانينات مع اندلاع جولات من الحرب الداخلية ودخول الجيش السوري اليها وإطباقه الأبنية على «ثوار» مجموعة «أبو عربي»، وتنفيذه «مجزرة» راح ضحيتها 500 شخص. المجزرة بقيت عالقة في ذاكرة الأهالي. صارت الشماعة التي يستعيد عبرها المقاتلون النار والرصاص، في خاصرة رخوة، وصل فيها عدد جولات القتال والعنف الى 20 جولة. ثم تذرعوا بالأزمة الدائرة في سورية التي ألهبت منذ 3 سنوات المحاور القتالية وأزهقت الأرواح ودمرت المباني. في جولة ميدانية لـ «الحياة» بعد يومين على تطبيق الخطة الأمنية، يوزع أصحاب المحال والعاطلون من العمل من الجالسين حول محال «فرط» السيارات، والمجاورين لبائعي القهوة و «سناك» الدجاج ابتساماتهم. كأنهم لم يعرفوا كيف جاءت الدولة الى «هنا» كي تنقذهم من «زمر» قادة المحاور ومسلحيهم والملحقين بهم من فتية اكتشفوا الشارع على أنه ساحة «حرب متنقلة». فباتت جولات العنف مناسبة لعرض مراهقتهم «المبتورة» في بيئة فقيرة ومنسية. ويقول محمد القبوط (19 سنة) انه لم يشارك في القتال لأنه يريد استكمال دراسته الجامعية ولا يخفي حزنه على ضحايا «سياسة المحاور»، منوهاً بـ «الخطة الأمنية التي أرست مصالحة ولو رمزية بين الأهالي»، متمنياً ان تكون هذه «المصالحة باباً لعبور المنطقتين الى الإنماء». ومحمد واحد من شباب كثر، شلّت جولات العنف حركتهم ودفعتهم في بعض الأوقات الى اليأس، يقول:» كنا لا نستطيع الصعود الى الجامعة بسبب إغلاق طريق الشمال الموصلة الى القبة، حيث كليات الجامعة. نضطر الى الخروج من ناحية دوار ابو علي الذي لطالما بقي تحت أزيز رصاص القنص»، موضحاً: «كنا نذهب وأرواحنا معلقة خوفاً من الرصاص والقذائف». ما تغير في باب التبانة إثر ملاحقة القوى الأمنية المطلوبين الى الدولة من المتورطين في أعمال العنف والتحريض، إرساء أمن يمكن ملاحظته من انتشار كثيف لعناصر الجيش في متفرعات الطرق والزواريب بين باب التبانة وجبل محسن، بدءاً من سوق الخضر وطلعة العمري وبعل الدراويش والحارة الجديدة وشارع سورية والأحياء الداخلية في التبانة وجانب من سوق القمح وحي السيدة وصولاً الى جبل محسن. انتشار عزز مصالحة صباح أمس تمثلت بخروج شبان أهل التبانة في مسيرة باتجاه الجبل. لكن هذه المصالحة لم ترض أولياء الدم من الطرفين، اذ دعت رنين دياب ابنة علي دياب الذي قتل على يد مجهولين وشقيقة يوسف الشاب المقبوض عليه بتهمة «التورط في تنفيذ تفجيري مسجدي السلام والتقوى»، الى «عدم المصالحة»، مذكرة في صفحتها على «فايسبوك» مناصري رفعت عيد بما سمّته «جرائم القتل من جانب مقاتلي باب التبانة بحق أهل الجبل»، ومستذكرة «خطب المشايخ من التبانة ضد اهلنا». الكلام تسمعه ولو بالخفاء. لكن شيئاً من الود يصرّح به اهل المنطقتين. يقول جمال حمود (45 سنة) ان «السياسيين هم من دعموا قادة المحاور ودعموا القتال وجرّونا الى اقتتال عبثي». يجلس جمال بهدوء وهو يدخن نارجيلته في بعل الدراويش مع جاره محمد الماما (49 سنة)، الذي لم يلتق به منذ بداية الجولة العشرين. وما يمكن ازالته بخطة أمنية، لا يمكن إزالته من قلوب الناس سريعاً. يقول محمد السيد احد سكان حارة الشل في التبانة ان «الخطة تحتاج الى وقت كي تأخذ مسارها في مصالحة حقيقية بين الأهالي»، مشيراً الى «ضرورة اقامة حوار بين سياسيي المنطقتين وفاعلياتهما». في المقابل، اعتبر رئيس المجلس الاسلامي العلوي الشيخ أسد عاصي في مؤتمر صحافي انها «حرب عبثية دفعت ثمنها طرابلس غالياً»، شاكراً اهالي التبانة «وقد أتى بعضهم الى جبل محسن، ما يدل على حسن نية صادقة». ورأى عاصي ان «المصالحة تفقد عناصر القوة والترابط والمنطق»، وطالب المسؤولين بـ «إعادة النظر من اجل ان تجري هذه المصالحة من رأس الهرم الى القاعدة الشعبية كي تدوم». وقال: «كلنا اولياء دم حتى للشهداء في التبانة وطرابلس جميعاً»، مشدداً على «ألا يضيع دم الشهداء والجرحى»، مناشداً الدولة «اعادة النظر بوثيقة المصالحة عام 2008، المبنية على اسس وحضر في وقتها وجهاء طرابلس بحضور رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري والنائب السابق علي عيد». سياسة عربية