لا تخفى موضة تفريغ الأوطان من أهلها إلا على كل أعمى يفتقد البصيرة في هذا الزمن، الذي كان عنوانه الموت ورائحته رائحة الدماء وصفته التخاذل، بدءاً بفلسطين مروراً بالعراق وسوريا وانتهاء بالمكان الذي لم نعرفه حتى الآن، ربما لأن دوره لم يأتِ.. وربما لن يأتي.. فلا يعلم النهاية إلا رب البداية والنهاية ورب الأقدار. يقال إن جمال الأوطان بأهلها فماذا يبقى من جمال الأوطان إذا غادر أهل الأوطان أوطانهم وفصلت الأوطان عن أهلها كما تفصل الروح عن الجسد، فجسد هذه الدول في مكان، وروحها توزعت على أوروبا؛ لتتصارع كل دولة على غنيمتها من هذه الروح، وتتصارع خفاء على حجم كل جزء قبل أن تعلن اكتفاءها نوعاً ما بما حصلت عليه. ملايين من الفلسطينيين والعراقيين والسوريين يقيمون الآن خارج أوطانهم والسبب ماذا؟ إنه الظلم، نعم الظلم، فمن حق كل شعب أن يحيا في وطن فهذا أدنى الحقوق، لكن يبدو أن هذا الحق أصبح منحة على شعوب هذه الدول وهذا هو أعظم الظلم. ولدت الحكاية في فلسطين عام 1948 وترعرعت في العراق عام 2003، ووصلت ذروة شبابها في سوريا، سوريا التي تخاذل العالم كله عرباً وغرباً عن نصرتها وجلسوا يشاهدون طقوس احتضارها، لا بل جلسوا يشاهدونها جثة ينكل فيها ويمثل فيها وهذا أعظم التخاذل. "سنعود" كلمة يرددها أبناء تلك البلاد الثلاثة على لسانهم يومياً، لكن هل يؤمنون بها؟ شخصياً لا أشك بذلك ولا حتى قيد شعرة.. كيف أشك وأنا منهم.. وشعوري شعورهم، وهي لسان حالي كما هي لسان حالهم، لكن لنبتعد عن الكلام ولنرَ الأمر من جانب عملي: الهجرة الفلسطينية بدأت عام 1948 أي مضى عليها 53 عاماً، والهجرة العراقية بدأت عام 2003، أي مضى عليها 13 عاماً، والهجرة السورية لنفترض بدأت عام 2012 أي مضى عليها 4 سنوات، هل تعتقد أن الشعوب خلال هذه السنوات سترهن أمر عودتها على الأمل؟ الأمل أمر ضروري في الحياة، لكن لا بد لهذه الشعوب أن تتحرك وتجدّف في بحار الغربة أو الشتات كما يطلق البعض عليها، لا بد للطالب أن يكمل تعليمه.. ولا بد للعامل أن يبحث عن عمل يقتات منهُ هو وعائلته، أولئك الذين خرجوا بحثاً عن حياة آمنة خرجوا بحثاً عن الوطن الذي هو بالأصل أدنى حقوق الشعوب الغربية، لكن في بلادنا هو أعلى من سقف حقوقنا بكثير، نعم إنه الوطن السالم المنعم كما جاء في وصف الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان. لكن مع مرور الأيام ستفقد هذه الكلمة وزنها، وأقصد هنا كلمة "سنعود"، ستجود الغربة عليهم بحلوها ومرها وأشكك هنا بوجود شيء من الحلاوة فيها، إلا ما قلّ وندر، فمن ذاق الألم عرفهُ. ستبدأ الرحلة بتعلم اللغة والحصول على الإقامة، وسوف تنتهي بالحصول على الجنسية، وأي جنسية هذه التي سوف تسلخ عنّا هويتنا وانتماءنا وأصلنا وتاريخنا وأهلنا وأصدقاءنا، وتنسينا ياسمين الشام.. وليمون فلسطين.. وتسرق منّا أشعار العراق؟ أي جنسية هذهِ التي أصبحت حلماً لملايين منّا.. ولماذا كل ذلك؟ بسبب الظلم. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.