الأمة تعني الجماعة من الناس التي تجمع أفرادها روابط مشتركة كالدين واللغة، وتكون تلك الروابط منظومة ثقافية روحية تجمعهم، يعتزون بالانتماء إليها ويخافون عليها حيث تمثل هويتهم، وغالبا ما يقع جدل فكري بين أفراد كل أمة، على اتجاهين أحدهما يطالب بتحديث تلك الرابطة مواكبة للعصر، لأنهم يرون أنه لا قوة ولا استمرار لأمة إذا فقدت قدرتها على مواكبة متطلبات العصر، والاتجاه الآخر يمانع ذلك خشية أن يتسبب التحديث والمعاصرة في فقدان هوية الأمة، فهم يطالبون بضرورة المحافظة على روابط هويتها الثقافية المشتركة والتشبث بها كما هي، باعتبارها الأصل الذي ببقائه تبقى أمتهم مستمرة ومصدر فخرهم. إن هذين الاتجاهين يثيران دوما الجدل حول الطريقة الصحيحة للمحافظة على هوية الأمة وقوتها واستمرارها، وهل يكمن البقاء والقوة في محافظتها وتشبثها بأصالتها كما هي؟ أم يكمن في التحديث والإبداع ومواكبة التطور العصري؟. يؤكد بعض المفكرين من أصحاب الاتجاه المحافظ أن التشبث بماضي الأمة هو مصدر استمرارها، وهو الذي يؤكد وجودها وقوتها وفعاليتها، ولهذا تعمل الأمم على إحياء الثقافات التقليدية وبعثها والرفع من شأنها، فلا يمكن بقاء الأمة في نظرهم دون المحافظة على تراثها التقليدي وإحيائه. ويرون أن عودة الإنسان للوراء إنما ليخطو خطوة عملاقة إلى الأمام، فكذلك الأمة لا سبيل إلى تقدمها إلا بالعودة إلى تراثها، وهذا توجه الفيلسوف الألماني (هردر) يرى الاهتمام بدور الثقافات الروحية الأصلية لمختلف الشعوب لتحقيق التقدم في التاريخ، وبمثل ذلك يقول (هيغل). ولكن أصحاب هذه الرؤية المحافظة على التراث التقليدي وحده منتقدون، فالاكتفاء بما أنجزه الأسلاف دون الالتفات إلى ما تنجزه الأمم في عصورها الحاضرة يؤثر سلبا على حاضر الأمة، ولن تكون الأصالة بهذا المعنى إلا مفهوما مرادفا للانغلاق والركود والجمود، فالتراث وحده لا يكفي لمواجهة متطلبات العصر. ولذلك يرى بعض المفكرين من أنصار الانفتاح والتجديد أن بقاء وقوة الأمة واستمرارها يكمن في مدى قدرتها على مواكبة متطلبات العصر، فالأمة التي تواكب عصرها هي التي تملك شروط المنافسة مع باقي الأمم. والمعاصرة تقتضي التفاعل مع المعطيات الحضارية الحاضرة حيث تتأثر بما يبدعه الغير وتؤثر بدورها في الغير بقدرتها على الإبداع والعطاء، فقدرة الأمة على التنافس هي التي تؤكد مجدها وتجسد فعاليتها بين الأمم. والمعاصرة تتطلب الاهتمام بالعلوم والصناعة والتكنولوجية لتمكن الشعوب والمجتمعات من التقدم ومن المنافسة وتكريس البحث عن سبل النمو والتطور واحرازا كل لما يمكن الأمة من احتلال مكانتها في مضمار الحضارات المسيطرة في عصرها والتخلي عن كل قديم. وأصحاب هذه الرؤية منتقدون أيضا، فالاكتفاء بالبحث عن سبل التطور والرقي دون الالتفات إلى أصول الأمة وخصائصها، يؤثر سلبا على حاضر الأمة لأن التمسك بكل ما هو جديد ولو كان دخيلا، يعتبر تقليدا وتبعية لا إبداعا حضاريا، فالمعاصرة المبنية على مقاطعة القديم كله تؤدي إلى الانسلاخ الحضاري. لقد شبه البعض العلاقة بين التحديث والمحافظة بالعلاقة بين الجسد والروح، فكما أن وجود الإنسان لا يتوقف على جانب دون آخر فكذلك وجود الأمة لا يتوقف على جانب دون آخر، فإذا كانت المحافظة هي روح الأمة فإن التحديث هو البدن الذي تستقر فيه الروح. ولذلك يقول زكي نجيب محمود عن كيفية الجمع بين الأصالة والمعاصرة من خلال كتابه «المعقول واللامعقول»: الأخذ عن الأقدمين وجهات النظر بعد تجريدها من مشكلاتهم الخاصة التي جعلوها موضع البحث وذلك لأنه يبعد جدا أن تكون مشكلات حياتنا اليوم هي مشكلاتهم. فالربط المحكم بين الأصالة والمعاصرة الذي يجمع بين محاسن الاتجاهين فيمكن الأمة من البقاء ويحقق لها التطور والاستمرار والقوة المنافسة، وهذا هو الموقف الوسطي المعتدل الذي أسس له الدين الإسلامي حيث يدعو إلى حضارة إنسانية قائمة على تحقيق القيم الروحية مع الاهتمام بالقوة المادية وأسبابها دون إفراط أو تفريط.