الملك عبدالعزيز كان رجل دولة من الطراز الأول، واستحق بجدارة أن يطلق عليه آخر الفاتحين القوميين في العصر الحديث. الملك عبدالعزيز، دونما مبالغة أو تجاوز لحقائق التاريخ ومعطياته، أقام دولته الحديثة في شبه الجزيرة العربية بمجهود ذاتي خاص، ولم يستعن أو يتواطأ مع أي قوى إقليمية أو دولية كانت فاعلة، آنذاك. على سبيل المثال: لم يكن، مثل الشريف حسين الذي رهن مصير مشروعه الوحدوي بإرادة وأطماع الإنجليز.. ولا مثل ابن الرشيد الذي ربط مصير كيانه السياسي المحدود في وسط الجزيرة العربية بدعم رجل مريض يحتضر في الآستانة.. ولا معاصره الملك فاروق الذي داعبته، ووالده من قبله، أحلام انتقال الخلافة من الآستانة إلى القاهرة، مرة أخرى. الملك عبدالعزيز كان نسيج وحده من بين الزعماء القوميين التاريخيين الذين كانوا أفذاذا تمكنوا بفطرة استراتيجية مبدعة أن يعايشوا مسيرة حركة التاريخ في زمانهم وأن يستلهموا حكمة توجه حركتها ويستشرفوا حينها دورهم فيها وحتمية تطابق مشروعهم السياسي مع إرادة حركة التاريخ السرمدية. كان الملك عبدالعزيز واثقا من حتمية نجاح مشروعه العروبي في شبه الجزيرة العربية وثوق إيمانه بعدالة القضية التي يحمل لواءها وعاهد نفسه وأتباعه على الانتصار لها، وكان له النصر المؤزر. لكن قبل أن نتعرض للتحديات الخارجية التي واجهتها المملكة بعد وفاة الملك عبدالعزيز والتي تطورت قبل وفاته في حقيقة الأمر علينا أن نؤصل لبعض الحقائق الهامة. في حقيقة الأمر إن إعلان قيام المملكة العربية السعودية عام 1932 كان بمثابة نهاية الفصل الأول من بناء المملكة العربية السعودية. يمكن اعتبار فترة الحرب العالمية الثانية حتى نهاية عقد الأربعينات بمثابة الجزء الأهم والفصل الأخير من اكتمال مشروع الملك عبدالعزيز العروبي الوحدوي في شبه الجزيرة العربية واعتراف العالم به. الملك عبدالعزيز نفسه الذي أدار معركة توحيد مملكته جغرافيا هو الذي أدار باقتدار معركة الاعتراف الأممي بمملكته، الذي توج باعتراف الولايات المتحدة بالمملكة العربية السعودية عام 1949. مرة أخرى كان الملك عبدالعزيز هو رجل مرحلة البناء الثانية لتأكيد رسوخ وثبات واستقرار دولته. وتظهر عبقرية الملك عبدالعزيز في هذه المرحلة في براعته في صنع وإدارة السياسة الخارجية لبلده. بداية: كان يعرف أن بناء الدول لا يكتمل إلا باعتراف النظام الدولي بها. ثانيا: كان بحسه الاستراتيجي الفذ يعرف أن العالم، وهو مقدم على إعلان قيام دولته، بدوره العالم مقبل على تحولات خطيرة وحاسمة سوف تعصف بقوى تقليدية وتأتي مكانها قوى دولية جديدة. ثالثا: كان يعرف أن زمن الإمبراطوريات قد ولى، وبالتالي استنتج أنه لا حظ لدول المحور أن تنتصر، فقط قَارن هذا بموقف الملك فاروق. رابعا: كان يعتقد جازما أن بقاء واستمرار واستقرار كيانه السياسي الذي بناه في شبه الجزيرة يحتاج إلى موارد ضخمة من أجل ذلك، وكان يراهن على اكتشاف النفط، برؤية ربما لا يعرفها إلا رجل استراتيجي مثله، ولا يستوعبها أو يعيها الجيولوجيون. خامسا: كان يستشرف دورا للنفط في مرحلة ما بعد الحرب الكونية الثانية، غير الذي عرفه عالم ما قبل تلك الحرب أو أثناءها. سادسا: كان يربط بين عالم ما بعد الحرب والنفط تلعب في دولته دورا مركزيا في إطار عالم جديد يقوده صراع قوى غير التقليدي، حيث لا يمكن لتلك القوى الجديدة أن تتسيد عالم ما بعد الحرب الكونية الثانية دون توفر النفط كوقود لاقتصادها. في النهاية: توج الملك عبدالعزيز نجاح سياسته الخارجية عندما شاركت المملكة العربية السعودية، كعضو مؤسس، في مؤتمر سان فرانسوا في 24 أكتوبر 1945 الذي أعلن قيام الأمم المتحدة. في رأيي الشخصي أن الملك عبدالعزيز ــ في لحظة قيام الأمم المتحدة ومشاركة مملكته في كتابة ميثاقها باعتبارها عضوا مؤسسا في قيام المنظمة الأممية ــ كان أسعد إنسان في العالم. سعادته فاقت تلك التي غمرت بعض المنتصرين الكبار في الحرب بعد أن خروجوا منها وهم يلعقون جراحهم، مثل ونستون تشرشل الذي لم يعد له دور في بلده بعد الحرب، وأذنت الحرب بأفول نجم الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. يومها اطمأن الملك عبدالعزيز على نجاح مشروعه العروبي الوحدوي في شبه الجزيرة العربية، ولكن تظل تحديات تتراءى في الأفق. وللحديث بقية. للتواصل أرسل sms إلى 88548 الاتصالات ,636250 موبايلي, 738303 زين تبدأ بالرمز 154 مسافة ثم الرسالة