الواسطة ليست مجرد «وسيلة» ملتوية لتحقيق العدل حين يعجز الشخص عن أخذ حقه. إنها ثقافة وتراث ثقافي متكامل، يستند في جذوره إلى نظمنا الاجتماعية التقليدية المتوارثة. ففي المجتمعات الأبوية، مثل مجتمعاتنا، تترسخ مجموعة من القيم الاجتماعية، ترتكز على التكامل الاجتماعي، إلا أن الانحراف بهذه القيم في ظل الدولة وعمل المؤسسات، وفي ظل شخصنة السلطة الإدارية، حيث يصبح المسؤول هو المؤسسة ونظمها، يجعل من المؤسسة «صنيعة» أو مزرعة خاصة به، يوظفها وفق إرادته ومشيئته، ويخضعها لنزواته ونزعاته وأهوائه الشخصية. فيمنع من يستحق، ويعطي من لا يستحق. فما الذي تتوقعه في ظل مثل هذا الوضع؟! النتيجة المنطقية تتوزع في اتجاهين: * الأول هو أن يختل عمل المؤسسات والمرافق حين يحتل كل غير موقعه، حتى تضيع قاعدة «الرجل المناسب في المكان المناسب» أدراج الرياح، والخاسر في النهاية هو الوطن. * الثاني هو إشاعة الشعور بالظلم وانعدام العدالة وغيابها، وما يترتب على ذلك سيكولوجيا من شعور بالغبن والحيف. لا أبحث عن مبررات للشباب الانتحاريين، دعني أؤكد هذا أولا وثانيا وثالثا. ولكن ألا توافقني الرأي على أن شعورا مثل هذا يمكن أن يدفع بشاب يافع إلى الارتماء في أحضان من يعده نسيان واقعه من مروجي المخدرات، أو يعده بالجنة إن هو سلك طريق الجهاد ضد وطنه ومواطنيه؟! بالطبع هو أمر محزن في الحالتين. ولكن تأمل ما الذي يمكن أن تؤدي إليه الواسطة؟! الواسطة يا هداك الله يمكن أن تؤدي إلى كوارث اجتماعية تتعدى ذلك بكثير، ولكننا لا نعتبر. أعرف أنك تريد أن تسأل: من أي جحر تخرج هذه الآفة؟! هل تذكر أنني قلت لك في بداية حديثي: إنها انحراف في ممارسة اجتماعية حميدة؟ ربما تحتاج إلى زيادة إيضاح هذه النقطة. نحن نعيش في مجتمع يعتمد في نسيجه على التلاحم والتراحم والتكافل، بمعنى نحن عكس المجتمعات الغربية، فالفرد منا يستمد قيمة وجوده من تلاحمه مع المجتمع، إذا أصابت الفرد منا مصيبة فهي مصيبة الجميع، وإذا أصابه فرح فهو فرح الجميع، نحن معجونون في بوتقة واحدة، لذا يلجأ بعضنا لبعض في كل الأحوال والملمات. هذا مبدأ وأساس جيد لا يمكنك أن تذمه بل هو سر هذا التماسك غير المنظور لغيرنا.