رمضان هو شهر القرآن الكريم، وشهر الصيام الركن الرابع من أركان الإسلام، وهو الشهر الذي فيه ليلة خير من ألف شهر، وهو الشهر الذي امتلأت الكتب والمجلدات بفوائده الجليلة، ومزاياه الفضيلة، وصفاته الكبيرة، وثوابه العظيم، يقول تعالى كما في الحديث القدسي الشريف: ( كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ) ، وبذلك فإن الله تعالى أراد أن يكون جزاء ذلك كبيراً بما يتناسب مع أهمية هذا الركن الأساسي من أركان الإسلام الحنيف. إنه لا يحب المسرفين: ومن السلوكيات غير المرغوب فيها ظاهرة الإسراف في شهر رمضان المبارك حيث يكون التبذير والإسراف الكبير والله سبحانه وتعالى يقول: (إنَّ المٍبّذٌرٌينّ كّانٍوا إخًوّانّ الشَّيّاطٌينٌ) (صدق الله العظيم )، وقوله الحق في كل زمان ومكان بما في ذلك شهر الخير رمضان، فالتبذير والإسراف ليس من سمات المؤمن المسلم، ولكن للأسف طغى الوضع الاجتماعي والعرف السائد على ما يقرره الدين فصار رمضان شهر التسمين، وصار شهر الصيام شهراً للطعام، وصار شهر العبادة شعاره هل من زيادة من طعام ولا حول ولا قوة إلا بالله الأكثر من ذلك أن بعض البلدان قد شط بهم الأمر إلى حد الخيام الطعامية، ولكن لا نتحدث عن غيرنا، فما لدينا يكفي، وسلات المهملات تشهد على ما يحدث، والتناهب في الأسواق الغذائية والمطاعم أكبر دليل على البطون التي تستيقظ في رمضان، والأمر ليس بطوناً فحسب، وإنما نفوس جائعة تشتري أضعاف أضعاف الحاجة لترمي بعد ذلك ما يزيد وهو كثير، هل هذا هو المطلوب وخصوصا في رمضان؟. ألم يسمع المسرفون قول الله تعالى بحقهم: (إنَّهٍ لا يٍحٌبَ المٍسًرٌفٌينّ)، ألم يعلموا أنهم في شهر التقوى يغضبون رب العباد بأفعالهم؟، وهل بعد غضب الله شيء؟، نعم فلنتصدق بثمن هذا الطعام الزائد، فلنعط الفقراء والمحتاجين، ولكن لا نرميه أكرمكم الله مع الفضلات، فلقد صارت موائدنا الرمضانية في معظمها للزبالة، والتجار دائماً يؤكدون أن مبيعاتهم تزيد أضعافاً مضاعفة خلال رمضان، وما لا يباع عادة في أيام السنة يباع بكل سهولة في رمضان. للأمر أسباب منها النفس البشرية، ومنها العادات الاجتماعية وحب التظاهر والمباهاة والمراءاة، ومنها الشراهة الطعامية وهي سمة من سمات العصر، ومنها نقص الوعي، ومنها الإعلام بوسائله المختلفة التي تشجع الإعلانات والدعايات التجارية الغذائية، وتصف الوصفات الغذائية الشهية، ولكن في تصوري أن السبب الأكبر هو عدم ربط البعض القضية بالوازع الديني، فلو فكرنا قليلاً بالأمر من الزاوية الدينية لنبذنا هذه العادات وراء ظهورنا ولتخلصنا منها، إننا نعرف أن بعض الصائمين يعتقدون أنهم إنما سيأكلون طعام البر وماء البحر كله لحظة الإفطار. النفقة في رمضان: وحيث أنّ الحسنات تتضاعف في شهر رمضان، فإن أهل الخير والإحسان يحرصون كل الحرص على الإنفاق في هذا الشهر الفضيل، وتتنوع الخيرات المادية والمعنوية إفشالاً للمنهج النبوي في هذا النصوص. قالت أم المؤمنين عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان» نعم كان الرسول صلى الله عليه وسلم جواداً كريماً في كل وقت ولكنه في رمضان كان أجود ما يكون في رمضان، ولذا فإن من يتأسون برسول الله صلى الله عليه وسلم في بذل المعروف بالصدقات هم يقتدون برسولهم الكريم وينشدون ما عند المولى العظيم من مضاعفة للأجور في هذه الأيام المباركة فيجتمع لهم فضل الصيام والقيام والصدقات. والصدقة تطفئ غضب الرب وتمحق الذنوب وفيه تأليف للقلوب وصلة للأرحام وإزالة لما في نفوس الضعفاء مع الأغنياء وفيها روحانية عظيمة على نفوس المتصدقين وقبل هذا فيها أجر عظيم من المولى عزَّ وجلَّ: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء)، وأفضل الصدقات ما كان يراد به وجه الله عزَّ وجلَّ لا رياء ولا سمعه ولا مكافآت على معروف بل ابتغاء وجه الله وفي سبيل الله وكذلك الإنفاق من طيب المال والأعيان لا رد لهم (حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ)، وكذلك عدم المنِّ والأذى والتصرف عليهم (قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى)، «وصدقة السر خير من صدقة العلن ورجل لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه»، وقد تكون صدقة العلن مقبولة في أحوال لا يسع تفاصيلها وكما ذكرها أهل العلم. النفقة الواجبة: ومن أبواب النفقة الواجبة الزكاة وهي ركن من أركان الإسلام يتهاون فيه بعض الناس بالتراخي على صرف زكواتهم، بالتقصير والتأخير والتسويف أو العدول عنها بالتأويل والتحايل والعياذ بالله وهناك من لا يعرف حساب زكاته أبداً مما يجعله مقصراً في أداء حقها وواجب عليه السؤال عنها لأهل العلم لأنه ليس معذوراً بالجهل وقد تحققت له أسباب المعرفة وفي المقابل هناك من يحرص على أداء الزكاة في أوقاتها منتظمة غير منقوصة يخرجون ما حق عليهم في الزكاة بنفس طيبة راضية ويتقربون إلى الله بأدائها ويعلمون أنها نفقة مخلوقة وسيبارك الله فيما بقي ومن أمسك عنها فإن الله سبحانه لن يبارك للممسك والمانع للزكاة، وتعظيماً لهذا الشهر ولأيامه ولياليه المباركة، هناك من الموسرين من يقدر زكاته القادمة ويجعل في دفعها في هذا الشهر لمحتاج إليها وطلب البركة وعظيم الأجر في هذا الشهر. وإلى جانب الزكاة والصدقات هناك باب آخر من أبواب الخير ألا وهو القرض الحسن فإن صاحبه مأجور إذا يسر على مسلم وفرج كربته ودفع ضائقة عن أخيه وقد ورد في الأثر أن القرضين يعدلان صدقة. وفي الوقت الذي نحث فيه على التعاون على البر والتقوى ومساعدة الآخرين فإننا في الوقت نفسه نرى كثيراً من الناس عدلوا عن المساعدة والقرض الحسن لما يجده من المماطلة والتسويف لدى المقترض بل وربما الممانعة في السداد وإهانة صاحب الحق وهذا الممانع والمسوف ارتكب الإثم وربما تسبب في صد صاحب القرض الحسن عن المعروف لاحقاً وتحمل هذا فليتق الله هؤلاء وليدفعوا ما عليهم ويسارعوا في ذلك امتثالاً لقول الله عز وجل: (هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)، ومع الحديث عن الزكاة والصدقات والقروض الحسنة وسائر أبواب الخير فهناك من الناس من خيره للغير ولا يعرف معروفاً لقريب أبداً، وهذا خلاف للشرع وما أمر به (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ)، والصدقة والزكاة على القريب أولى من غيره ففيهما أجران في أجر الصدقة والزكاة ثم احتساب الأجر فيها بأنها باب من أبواب صلة الأرحام وتأليف القلوب، وما أحوجنا في هذا الزمان بالذات إلى العمل إلى كل ما من شأنه تأليف القلوب بين الأقارب وصلة الأرحام حتى الموسر أن يلتفت إلى من حوله من أقارب وأهل يلتمس فقراءهم المحتاجين ويعينهم ويساعدهم ويدفع إليهم بإحسان بلا مَنّ ولا أذىً وإن عجز عن معرفة المستحقين فلا بأس من الاستعانة بمن يثق فيه من أسرته ممن يعرف أحوال الأقرباء، وإن كان هناك لجنة أو صندوق خيري للأسرة فقد كفوه الأمر ولن ينقصه الأجر. وللأسف هناك من يصد عن الصدقة والزكاة لأقربائه خشية أن يعلموا عمّا لديه من يسر الحال وما علم فضل الزكاة والصدقة على الأقارب. المتاجرون في الدين: وكما ذكرت أنه يكثر فعل الخيرات، وتتجلى الصدقات بأسمى وجوهها، وفيه تخرج الزكوات في هذا الشهر الذي يتجلى فيه إيمان المسلم على أروع صورة، ويعطي أروع مشهد للعالم أجمع، هذا ما نعرفه نحن عن المسلم والإسلام ورمضان. ولكن هناك صنف من البشر يعرفون هذه الحقائق لكن للأسف يسخرونها لأغراض وأهداف دنيوية، ومصالح ذاتية في هذه المناسبات ويتكاثرون، حتى إنهم يأتون إلينا من بلاد ودول بعيدة، ونحن لا نعرف عن هويتهم أقل من القليل، يأتون وهم يستغلون الحقائق، مضيفين إليها أن هذه البلاد قائمة على شرع الله، ودين الإسلام، وأن شعبها طبعه التدين وحب الدين، وحكومة خادم الحرمين الشريفين هي حكومة العطاء لكل المسلمين في أرجاء الأرض قاطبة. يأتون وهمهم جمع المال لا أكثر، ولأهداف لا يعلمها إلا الله، إنهم نصابون محترفون بصيغة دينية عصرية، والمؤسف أنّهم كثيراً ما يجدون من يزكيهم، ويمشي معهم أو يتكرم عليهم! إننا لا ننكر أن من بين الذين يأتون أناسا بمنتهى الصدق، وعملهم خالص لوجه الله تعالى، ولنصرة دينه، ورفعة الحق، وإزالة الباطل، وأنهم يتحملون المشاق قاصدين هذه الديار طالبين العون، إذاً مساعدتنا لإخواننا حق واجب، وتمسكنا بالأعراف والتقاليد الإسلامية الأصيلة من كرم وسخاء واجب أيضا، ولكن ما هو مطلوب منا هو التحقق والتثبت من هوية أولئك الطالبين، حيث توجد هيئات رسمية يمكن لراغب المساعدة أن ينضم تحت مظلتها، وهي تعرف به، وتدعمه في آن واحد، كما أن سفارات المملكة تبذل جهودا في التعريف بالجمعيات والمراكز التي يمكن مساعدتها. تسول المناسبات: والتسول قضية غير منتهية على الرغم من الجهود الكبيرة التي تبذل من أجل إزالتها والتخلص منها كونها عملية بعيدة عن روح الإسلام، وتحمل معاني بعيدة عن الحضارة والسلوك الحضاري بشكل كبير، انها تخرج من باب لتعود من الشباك بأشكال عديدة وأنماط لا تخفى على أحد، وخصوصاً إن بلادنا بما حباها الله من خيرات صارت مطمعاً لكل أولئك ذوي النفوس الضعيفة والأطماع الكبيرة والجشع المستمر. نحن نعلم انه في أمتنا الإسلامية يوجد محتاجون كثيرون، لا بل إن المحتاجين أكثر بكثير من غير المحتاجين، ولكن التسول لم يكن يوماً حلاً إسلامياً مقبولاً لمشاكل معروفة، وهناك سبل أخرى تقتضيها الهيئات والمنظمات والدول الإسلامية، وعلى رأسها مملكتنا الغالية من أجل تقديم العون لإخواننا المسلمين حيثما أمكن ذلك بالقدر الأكبر من الاستطاعة. البعض يمتطي جواد التسول، وهو لا يهدف من وراء ذلك إلا لجمع المال والثروة، وهؤلاء يستغلون كل مناسبة وكل شاردة وواردة من أجل الحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب، فتراهم مرة يتصنعون المرض، وتارة يعزفون على أوتار الاعاقات ومرة يستجدون الناس وحيناً يكذبون ويخادعون، وما أكثرهم في مواسم الخيرات والعطاء مواسم رمضان والحج حيث يجتمع هؤلاء المتسولون المتطفلون، وقد اكتظت بهم الطرقات والشوارع، بل حتى في المسعى وفي الطواف وفي كل مكان من البقاع المقدسة، نعم يأتون ونيتهم التسول قبل أن تكون العمرة أو الحج، انهم يأتون وعيونهم فارغة لا تريد إلا المال والكسب غير المشروع! إنها ظاهرة كبرى وخطيرة ووجه غير حضاري لهذا التجمع المبارك الذي يجتمع في رمضان سواء في مكة أو المدينة أو حتى الأماكن الأخرى، ولكننا خصصنا الحرمين بالذكر لمكانتهما العظيمة التي لا تخفى على أحد، وللأعداد الكبيرة من المسلمين التي تأتي من كل حدب وصوب لتؤدي المناسك. لقد لفت نظري بشكل واضح كثرة أولئك المتسولين القادمين على التحديد من بعض البلدان الأفريقية، وهم بهذا يسيئون لأنفسهم ولبلدانهم ولأمتهم ولإسلامهم جميعاً، لنا بهذا الخصوص رجاء من بلدانهم ملاحظة هذا الأمر الخطير لما فيه مصلحة الأمة جمعاء. وفي بلادنا نرفع صوتنا بمطالبة الجهات المسؤولة بأن تأخذ دورها بشكل يبعث الاطمئنان، وأن تأخذ المسألة بمحمل الجد، لا سيما إذا علمنا أن القضية قد تكون مرتبطة بعصابات منظمة، ويقف خلفها من يوجهها بشكل أشبه ما يكون بأعمال المافيا والعياذ بالله وعلى هذا فإن الأمر يجب أن يدرس، ويوضح بإطاره الصحيح، وتوضع الخطط المناسبة لحلها، والخلاص منها بشكل جذري سواء كانت عملاً إفرادياً أو مخططاً ومنظماً بحيث يتم اجتثاث القضية بشكل نهائي، إن المتسول بعمله إنما يستهدف الأمة الإسلامية كلها، ولا سيما إذا علمنا ارتباط قضية التسول بشكل صريح بقضية السرقة والنشل وما شابه، فالمتسول الذي لا يحصل على ما يريد يتجه للأساليب الأخرى كحل أخير لتحقيق مآربه الشريرة. اننا بالخلاص من هذه الظاهرة لا نحمي أنفسنا فقط، وانما نحمي كل زوار بيت الله الحرام الذين يأتون وقلوبهم عامرة بالإيمان، وشوقهم كبير كبير لتأدية السنن والفرائض، وكم سمعنا من مآسٍ تعرض لها هؤلاء الإخوة بسبب أولئك المحتالين والسارقين. ونحن في شهر رمضان المبارك، هذا الشهر الفضيل الذي أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، ومما يوصل لتلك الغايات فعل الخير، فهو شهر الخير، وأهل الخير، وجمعيات الخير بانتظاركم وعطائكم الذي عطاء الله لكم، فلا تبخلوا به وأنتم أبناء بلاد الخير كل الخير .. والحمد لله. كما إن شهر رمضان المبارك فرصة ثمينة للتوبة واللجوء إلى الله العلي القدير، والتسامح وتصفية الأحقاد والضغائن، مع كثرة الاستغفار والابتهال إلى الله العلي القدير أن يصلح أحوال من في قللوبهم مرض خالية من الضغينة بما يعود على أنفسهم ومجتمعهم بكل خير وفضيلة. alomari1420@yahoo.com