زيادة المنافسة عن طريق التوسع في السماح للبنوك الخليجية والأجنبية، وتوسعة نطاق أعمالها وفروعها في المملكة، سيكون لها دور إيجابي في زيادة كفاءة القطاع البنكي تحدثت في الأسابيع الماضية عن الحاجة إلى مراجعة دور مؤسسة النقد العربي السعودي، وهي تحتفل بقيادتها الجديدة النيرة، في إدارة استثمار احتياطياتها التي تشكل أكبر "صندوق سيادي" في المملكة من حيث حجم الأصول. واقترحت سياسة استثمارية تدر على الدولة عوائد أكبر، أو التخلي عن بعض تلك الاحتياطيات إلى صناديق استثمارية أخرى. وتحدثت كذلك عن مراجعة دور المؤسسة في الرقابة على شركات التأمين، من حيث تحقيق مزيد من الشفافية في هذا القطاع، وتحديث أساليب العمل فيه، بما يحمي المؤمن عليهم والمساهمين من جهة، ويحقق عائداً اقتصادياً أكبر من هذا القطاع المهم، من جهة أخرى. واليوم أتحدث عن الحاجة إلى مراجعة دور المؤسسة في الرقابة على البنوك، وهو أحد أهم أدوار المؤسسة، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، خاصة في المرحلة الحالية التي تسعى فيها المملكة من خلال "رؤية السعودية 2030" إلى زيادة فعالية الاستثمار الحكومي والخاص. إشراف المؤسسة على البنوك من أكثر المواضيع إثارة للجدل، فمسؤولو البنوك وعملاؤها معاً يشتكون مما يصفونه بالبيروقراطية وتعقيد الإجراءات الحكومية و"التدخل" في صميم العمليات البنكية، بدلاً من وضع المعايير والرقابة عليها عن بُعد. وكثيراً ما تبرر البنوك إجراءاتها غير المبررة أحياناً بأنها وضعت تنفيذاً لتعليمات المؤسسة، دون أن تكون هناك طريقة سهلة للتحقق من ذلك. ولا شك أن للكثير من هذه الإجراءات ما يبررها، من النواحي التنظيمية والأمنية وغيرها، ولكن ثمة ثمناً يدفعه المواطن والمستثمر والبنك نفسه لاتباع تلك الإجراءات، وأكثر من ذلك الثمن الذي يدفعه الاقتصاد السعودي من كفاءته وديناميكيته، وسرعة دوران الاستثمار فيه. وقد أدى تعقيد الإجراءات البنكية إلى استمرار الاعتماد على التعاملات النقدية، بقدر الإمكان، أو حتى المقايضة، لتفادي تلك الإجراءات. نتحدث كثيراً، بشكل نظري، عن «تحسين البيئة الاستثمارية» وكونه ضرورياً لتشجيع الاستثمار المحلي وجذب الاستثمارات الأجنبية، والعمل على تذليل معوقات الاستثمار، التي أحصت منها الهيئة العامة للاستثمار أكثر من 100 معوق يواجه المستثمر الوطني والأجنبي في المملكة. ولكي نتمكن من تحسين بيئة الاستثمار في الواقع العملي فإن من الضروري أن «نفكك» هذا المفهوم إلى عناصره الرئيسية، ونحاول فهم والتعامل مع كل منها. ومن الضروري كذلك ألا نقتصر في الحديث على «جذب الاستثمار الأجنبي» فحسب، بل عن تحقيق الاستفادة المثلى منه، وتقوية الروابط بينه وبقية الاقتصاد الوطني، بحيث تستفيد منه قطاعات كبيرة من الاقتصاد بدل أن يكون في أماكن معزولة محدودة التأثير. ومن المهم كذلك ألا يكون الأمر مقتصراً على تشجيع الاستثمار الأجنبي، بل يجب التركيز على الاستثمار الوطني -ويشمل الاستثمار الخليجي- لأنه يشكل الجزء الأكبر والأهم من حجم الاستثمار في المملكة، كغيرها من الدول. وعلاقة ذلك كله بمؤسسة النقد أن إشرافها على البنوك قد يمكنها من لعب دور أكثر فاعلية في التنمية الاقتصادية، لأن التمويل يلعب دوراً أساسياً في تحسين البيئة الاستثمارية. وقد أوضحتُ في مقالات سابقة كيف أن نضج الأسواق المالية يُعتبر أحد أهم عوامل نجاح الاستثمار، في الدول الصناعية، في حين أن للبنوك دوراً رافداً لتلك الأسواق. أما في منطقتنا فما زالت البنوك مهيمنة على العمليات المالية، سواء في الإقراض أو التمويل، بل تسيطر البنوك بشكل غير مباشر على أسواقنا المالية. ولهذا يمكن اعتبار البنوك في المنطقة أحد أهم محددات ومحفزات (أو معوقات) الاستثمار الوطني والأجنبي. فعندما تكون تكلفة التمويل مرتفعة، وعندما يكون التمويل مقصوراً على شريحة صغيرة من كبار المستثمرين، وعندما تكون معايير التمويل غير شفافة وغير عادلة، وعندما يكون عدد الأدوات التمويلية المعروضة محدوداً من حيث الكم والكيف، فإن ذلك كله يشكل قيوداً على الاستثمار وعلى مقدار استفادة الاقتصاد منه. وبالمقابل عندما تتمكن البنوك من تطوير وسائلها التمويلية وتقديراتها للمخاطر، وتتمكن الجهات الحكومية من توفير البيئة القانونية المناسبة لذلك، فإن البنوك سوف تكون عوامل جذب للاستثمار أولاً، وعوامل تزيد من انتشاره وتعميق آثاره، سواء منه الاستثمار المحلي أو الأجنبي. فصعوبة التمويل المحلي تدفع المستثمر إلى التقليل من حجم استثماره وقصره على نطاق محدود، بما يتلاءم مع قدرته على توفير التمويل الأجنبي. وفي حالة توفر التمويل المحلي بتكلفة عالية فإن المستثمر قد يلجأ إليه، ولكن ارتفاع تكلفته سيرفع من تكلفة المشروع. وتمر بكل استشاري اقتصادي مشاريع كثيرة يعتمد نجاحها على توفر التمويل، وتكلفة التمويل إن وجد. ويؤدي عدم توفر التمويل أو ارتفاع تكلفته إلى إحجام المستثمرين عن التوسع والاقتصار على مشاريع محدودة ذاتية التمويل، أو الاقتراض رغم ارتفاع التكلفة وتحميل المستهلك تلك التكلفة عن طريق رفع سعر أو منتجاته النهائية، أو تحميل القطاع الحكومي التكلفة عن طريق رفع تكلفة المشروع. فلعل الأهمية القُصوى لدور البنوك في التنمية الاقتصادية تدفع المؤسسة إلى إعادة تقييم فاعلية و"ثمن" البيئة الرقابية على البنوك، وتشكيلها بما يتوافق مع ذلك الدور المتناهي في أهميته، ويقلل تكلفة الامتثال على البنك والمواطن وقطاع الأعمال. وبالإضافة إلى هذه المراجعة التي حان وقتها، فإن زيادة المنافسة، عن طريق التوسع في السماح للبنوك الخليجية والأجنبية، وتوسعة نطاق أعمالها وفروعها في المملكة، سيكون لها دور إيجابي في زيادة كفاءة القطاع البنكي وتوفير تمويل إضافي يتلاءم مع طموحات "رؤية السعودية 2030".