ربما تنتابك حالة اقتناع بأن الأوروبيين يعانون الآن من مشاكل تغنيهم عن مراجعة تاريخهم الاقتصادي الذي يمتد لنحو 700 عام، لكنك ستكون مخطئاً في قناعتك تلك، وذلك لأن عملة «اليورو» التي ستكون موضوع حديثنا، تمكنت بالفعل من وضع حدّ للأساليب التي دأبت دول أوروبا على تبنّيها منذ عدة عقود أو قرون في محاولة منها للتحول إلى «مجموعة من الألمانيات الجديدة»! ويتعلق القصد من هذا الكلام بتكاليف استخدام العمالة، فقد نجحت ألمانيا في تخفيض تلك التكاليف منذ بداية عهد اليورو، وهي تريد الآن من شركائها في الاتحاد الأوروبي أن يحذوا حذوها، وهذه هي أسهل طريقة متاحة أمام تلك الدول لاستعادة القدرة على المنافسة في الأسواق وتسريع نموها الاقتصادي من جديد. إلا أن العقبة الكبرى تكمن في أن اليورو لا يحتكم إلى صمامات الأمان التي يحتاجها الاتحاد النقدي حتى يؤدي وظيفته على النحو المأمول، ويعود ذلك للافتقار إلى نظام الميزانية المشتركة التي يمكنها إعادة توزيع الأموال من الدول التي تقود اقتصادها بشكل جيد إلى تلك التي تفشل في هذا المسعى، ولا تتوفر بين المشاركين في الاتحاد حتى لغة مشتركة يمكنها أن تسهّل حركة تنقل العمالة من الدول ذات الأداء الضعيف إلى الدول الناجحة، وهذا يعني أن إعادة التوازن التجاري بين ألمانيا وإيطاليا، مثلاً، تنطوي على صعوبات كبيرة بخلاف الخلل في التوازن القائم بين ولايتي ماساشوسيتس والمسيسيبي في الولايات المتحدة (على اعتبار أن عجز الولايات ذات الأداء الضعيف يتم تعويضه من الخزينة الفيدرالية). وفي منطقة اليورو، تنطبق القاعدة التي تنص على أن العجز في الميزان التجاري لأي دولة يكون مؤشراً لضعف اقتصادها وافتقارها للقدرة على تأمين شبكة حماية مالية لشعبها أو لبنوكها. وفيما يتعلق بوضعية العمالة، فمن المعروف أن العمال يرغبون في رفع أجورهم، وينطبق هذا المبدأ بشكل خاص على إيطاليا التي سجل فيها المؤشر الذي يقارن بين مجموع ما يتقاضاه العمال من أجور وقيمة السلع والخدمات التي ينتجونها، ارتفاعاً يزيد ست مرات عن المؤشر المماثل للعمال الألمان بمقياس العملة المحلية للبلدين قبل دخول منطقة اليورو (اللير والمارك) في الفترة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية. وكانت الصناعة الإيطالية قد واجهت قبل هذه الفترة تحدياً آخر تمثل بظهور منافسين أقوياء في البلاد التي تقع شمال جبال الألب، وخاصة في المدن الألمانية الجنوبية، وكان الميدان الرئيسي لهذه المنافسة هو صناعة غزل ونسج القطن، وفي الوقت الذي كان فيه أرباب الصناعة الإيطاليين يواجهون مشكلة الهوامش المرتفعة للضرائب وارتفاع أجور العمال، كان المنتجون الألمان يتمتعون بالفوائد الكامنة في استخدام العمالة الماهرة والرخيصة، وبحلول مطلع القرن الخامس عشر، عرف الصناعيون الألمان كيف يستفيدون من هذا الفرق في التكلفة لمنافسة قوائم طويلة من البضائع الإيطالية في الأسواق، ونجحوا أيضاً حتى في اختراق الأسواق الإيطالية ذاتها. والآن، فإن ذلك لا يعني أن الإيطاليين كرماء أكثر من اللازم عندما يتعلق الأمر برفع أجور العمالة، ولا يعني أيضاً بأن الألمان بخلاء، بل يعني أنه على الإيطاليين العمل على تخفيض الأجور إلى المستوى المعمول به عند جيرانهم الشماليين، وهذا ما سبق أن فعلوه بين عامي 1950 و1970. وبما يعني أن على المؤسسات الصناعية الإيطالية أن تبدأ بمنح عمالها هامشاً أوسع للمساومة لتبدأ بعد ذلك مهمة التشاور معهم لوضع معايير متوازنة للأجور، وكانت إيطاليا قادرة على إنجاز هذه المهمة عندما كانت لها عملتها الخاصة التي تستطيع إعادة تقييمها بحسب الحاجة، وهو إجراء لجأت إليه مرات قبل عام 1999، لكنها الآن تتعامل باليورو لا بالليرة، ولم تعد قادرة على فرض نظامها الخاص للأجور إذا أرادت أن يكون لها اقتصادها المنافس، وليست ثمة من طريقة أخرى أمام إيطاليا لاستعادة التوازن التجاري، لأن ألمانيا لن تسمح بذلك. ونظرياً، يجب على ألمانيا أن ترفع الأجور إلى المستوى المعمول به في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا، أو أن تتفق مع تلك الدول على حل وسط في هذا المجال، لكنّها لا ترغب في ذلك. وما من أحد يعتقد أنه من السهولة بمكان تحويل إيطاليا إلى ألمانيا ثانية، وما من أحد يريد ذلك أصلاً. *محلل اقتصادي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»