أصدرت وزارة الخارجية الأميركية بالأمس تقريرها السنوي لعام 2015 عن الإرهاب، ومجدّدًا أشار التقرير إلى أن إيران تتصدّر الدول الداعمة للإرهاب في العالم. ولكن خلال ساعات قليلة كان {أبو مهدي المهندس}، نائب رئيس هيئة «الحشد الشعبي» - العراقي الجغرافيا الإيراني الهوى والهوية - يتحدّث عن تحضيراته لـ«تحرير» الفلّوجة، وخلفه صور أعلام ورموز وصور تدلّ على حقيقته الطائفية وتبعيته المطلقة لنظام طهران.. وللعلم تعدّ واشنطن «المهندس» إرهابيًا! لا بل ها هو ذا الجنرال قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني، يسرح ويمرح بانتظام بين سوريا والعراق - وربما لبنان أيضًا - كما يقوم بزيارات رسمية لروسيا وغيرها، ويقود المعارك ويهجّر السكان في سوريا والعراق.. وهو المُدرج أميركيًا مع «فيلقه» و«حرسه» على قائمة الإرهاب ودعمه! .. هذا على صعيد «دعم إيران للإرهاب» الذي لم يحُلْ دون جعلها حليفًا إقليميًا لواشنطن في الحرب على تنظيم إرهابي مشكوك في أصله وفصله اسمه «داعش». ولكن على صعيد آخر، ثمة تنظيمات كردية مسلحة تعتبرها تركيا - حليف واشنطن القديم - جماعات «إرهابية»، وشراذم كردية أخرى يؤكد قطاع واسع من السوريين أن لها صلات مشبوهة مع النظام الأمني السوري، غدت اليوم رهان واشنطن الأول في سوريا.. أيضًا بحجّة الحرب على «داعش». وبديهي مما نسمعه ونقرأه ونشاهده من المواقف والخطوات الأميركية الرسمية و«الإعلامية» أن القيادة الأميركية الحالية، بحجّة «الحرب على (داعش)»، ماضية قدُمًا في رهانها الاستراتيجي على الأكراد، على الرغم من تداعياته السلبية المحتملة على كيانات المنطقة، وتغاضيها الاستراتيجي أيضًا عن التمدّد الإيراني في أرجائها، وصولاً إلى اليمن. في اعتقادي أن هذه السياسة الأميركية قُرئت بصورة خاطئة غير مرة خلال السنوات الخمس الماضية؛ إذ قيل ذات يوم إن واشنطن «صرفت أنظارها عن الشرق الأوسط» بغية التركيز على مناطق أكثر أهمية وحساسية في العالم. ثم سمعنا عن وجود «ارتباك وتردّد» في البيت الأبيض الذي لا يؤمن بجدوى التدخّل العسكري المباشر في المنطقة بعد تجربة «حرب العراق». كذلك قرأنا عن أن «أولوية إدارة باراك أوباما الاقتصاد والشأن الداخلي» لا السياسة الخارجية. وبعدها أن واشنطن «أدركت خطأها في مباركة الربيع العربي»، إثر المكاسب المبكّرة للإسلام السياسي في مصر وتونس.. وظهور جماعات إرهابية متطرّفة ونشوب نزاعات مسلحة في ليبيا وسوريا واليمن استوجبت تدخّلات خارجية. ربما كان في كل ما سبق شيء من الصحة، لكن الصورة الكاملة أسوأ وأخطر، وهي التي بدأت تتكشّف تدريجيًا في «حوارات» أوباما الصحافية المتعاقبة، وتُترجم على الأرض تباعًا منذ عقد صفقة الاتفاق النووي الإيراني. الحقيقة أن واشنطن لم تصرف نظرها عن الشرق الأوسط، ولا هي مرتبكة أو متردّدة، ولا تهمل السياسة الخارجية، ولا هي تصحّح أخطاء في التقدير.. والتنفيذ، وبالأخص «خطأ» غزو العراق، ومن ثَم تسليمه تسليم اليد إلى إيران. هذه الإدارة تدرك تمامًا ما تفعله، بدليل تضليلها المتعمّد الرأي العام الأميركي في موضوع الصفقة النووية مع إيران. وهي حقًا تخوض حربًا سياسية مباشرة وعسكرية غير مباشرة على حلفائها القدامى في الشرق الأوسط، وبالتحديد العرب والأتراك. إنها تؤسّس لخارطة جديدة بديلة لمنطقة الشرق الأوسط، تحلّ محلّ الخارطة التي رسمها النظام العالمي المولود من الحرب العالمية الأولى. ولئن كانت الحصيلتان الكبريان لانهيار الدولة العثمانية: تسليم الشرق الأدنى عام 1920 إلى انتدابين بريطاني وفرنسي، والتمهيد لـ«وطن قومي يهودي» في فلسطين. فإن الحصيلة التي تعمل لها واشنطن بعد قرابة مائة سنة تقسيم الكيانات الحالية، وتسليم المنطقة إلى انتداب إيراني والتمهيد لتأسيس «وطن قومي كردي» يمتد من السليمانية إلى البحر المتوسط. الإعلام الأميركي، وبالذات الليبرالي منه، يقف في واجهة الأحداث هذه الأيام وهو يقرع الطبول ضد «التطرّف الإسلامي»، السنّي حصرًا. وهو يبدو ناسيا أو متناسيا استخدام واشنطن - لعقود - تنظيمات الإسلام السياسي الراديكالي المسلّح، مثل «المجاهدين الأفغان»، والاستفادة منها في حربها الكونية ضد الشيوعية السوفياتية. أرشيف صحيفة «النيويورك تايمز»، الانتقائية جدًا في لوم «الآخرين»، لا شك يضم وثائق كثيرة عن التنسيق بين الاستخبارات الأميركية والباكستانية إبّان حرب أفغانستان ضد «الجيش الأحمر»، وبالذات، علاقة الجنرال حميد غول، مدير الاستخبارات العسكرية الباكستانية، الوثيقة مع وكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه). كذلك لدى الصحيفة معلومات مهمة إزاء مَن أسهم في تدريب وتسليح، وليس فقط تمويل، الجماعات التي تحوّلت فيما بعد إلى تنظيم القاعدة في أفغانستان. أما بخصوص تنظيم داعش، فأحسب أن عند «النيويورك تايمز» و«الواشنطن بوست» وغيرهما معلومات وافية عن العلاقات المزمنة والمشبوهة للنظامين الأمنيين السوري والإيراني مع الجماعات الإرهابية التي ترفع شعارات الإسلام، بدءًا من «القاعدة» وانتهاءً بـ«داعش». إعلاميًا أيضًا، أطل خلال الأسبوع الماضي محلّل وكاتب سياسي أميركي مرموق في «الواشنطن بوست» على فضائية إخبارية عربية، ليقول إن ميليشيا «قوات سوريا الديمقراطية» هي «حسب الخارطة الحالية لتوزّع القوى في سوريا» القوة الوحيدة التي يمكن لواشنطن الاعتماد عليها في قتال «داعش». المحلّل والكاتب انطلق بواقعية من «الخارطة الحالية لتوزّع القوى في سوريا»، لكنه لم يُشر إلى كيف وصلنا إلى هذه الخارطة، ولا كيف تصرّفت واشنطن طيلة خمس سنوات من المحنة السورية، ولا كيف رفضت مرارًا تزويد «الجيش السوري الحر» بالسلاح النوعي الذي يؤهله لمواجهة جيش النظام والزّمَر المتطرفة التي ظهرت في الساحة بمرور الوقت وجهود أجهزة الاستخبارات المتعددة. واليوم، بفعل التواطؤ الدولي مع نظام بشار الأسد، والتآمر الممنهج على انتفاضة الشعب السوري، والمباركة الضمنية للتدخلين الإيراني والروسي، تحاول واشنطن تضليل العالم بربطها مستقبل سوريا بميليشيا انفصالية كردية، لا هي «ديمقراطية» ولا تؤمن بـ«سوريا». ما هو ماثل أمامنا باختصار حرب فعلية على العرب السنة تنتهي بخريطة جديدة للشرق الأوسط.. تزرع الريح ولن يطول الوقت حتى تحصد العاصفة.