ربما تجاوزت بعض دول الربيع العربي أزمة الانتقال من الأنظمة الدكتاتورية إلى أنظمة أكثر ديموقراطية وانفتاحا، مع تحفظي على مقولة تحرر أبناء تلك الدول. تجاوز الأزمات السياسية ودخول المجتمعات إلى مرحلة إعادة البناء لا تعني بالضرورة انتهاء مكونات الأزمة في عقول الأفراد وضمير الأمة، التي ـ غالبا ـ ما ستستمر مكوناتها إلى عقود وعقود، فتجاوز الشعوب لمرحلة الاقتتال الداخلي فكريا وحزبيا وميدانيا ليس بالأمر الذي يمكن تجاوزه بين يوم وليلة، ورحلة العودة إلى السلام الاجتماعي ستمر بمراحل عديدة من التأزمات والإخفاقات، ليس لأن هناك من يسعى فقط لاستمرار التوتر وعدم الاستقرار، ولكن لأن عودة الاستقرار يجب أن تمر بمرحلة مخاض عسيرة ركيزتها إعادة النظر فيما جرى وما يجب أن يكون عليه الحال مستقبلا. يقول مارتن سين الرئيس التنفيذي لمجموعة زيورخ للتأمين أثناء مشاركته في مؤتمر دافوس الأخير: إن "الأزمة الاقتصادية العالمية قد تكون انتهت، إلا أن الأزمة في عقول البشر مازالت قائمة"، وهو تشخيص يمكن إسقاطه على الأثر السلبي الذي ينشأ في العقل الجمعي للأفراد والمجتمعات تجاه أي أزمة يمرون بها، فما يحدث اليوم في مصر لا يمكن النظر إليه باعتباره ربيع ما بعد الربيع، والحالة من التأزم السياسي والأمني في كل من ليبيا وتونس ما هي إلا تجسيد لذلك الشعور المكون من خوف من الحاضر وتشكك في المستقبل. الخاسر الأكبر بطبيعة الحال في مرحلة الفوضى هذه هو المجتمع ومكوناته من: أفراد، واقتصاد وأمن، فدول الربيع التي ألهبت عقول العرب بشعارات رنانة وهتافات ثورية بطعم التاريخ وأمجاد الماضي، ليس بمقدورها اليوم أن تقف أمام دول اللاربيع وتفتخر بإنجازها، فحالها أسوأ مما كانت عليه، حيث إن كثيرا من مواطنيها هُجّر أو هاجر هربا من واقع مرير، ولم توفر له الحرية المنشودة أي أمان أورغد في العيش، وحرية الأفراد أصبحت مرهونة بترديدها لخطاب حاكم جديد أتى ليحل مكان حاكم سابق بنفس المواصفات ولكن ببزة جديدة. الطيور التي تولد في قفص تعتقد أن الطيران جريمة، كما قال الكاتب وصانع الأفلام التشيلي "اليخاندرو خودوروسكي"، وهو ذاته الاعتقاد الذي يتحكم في عقلية مجتمع "طير حوران" العربي وإن كان يسعى بين الحين والآخر إلى التحرر، إلا أنه يعود ليعيش مرحلة مخاضه العسير حتى تصبح ملامحه هي المسيطرة عليه، فيعود مجددا للقناعة بأنه ليس هناك أجمل من قفصه، ليعود ذلك الثائر العربي لتكرار التاريخ ولعن حظه العاثر.