ما كان للشاعر جرير أن يهجو خصمه الفرزدق بأشهر أبيات التهكم، لو أنّه أيقن أنّ الثاني قادرٌ على تنفيذ تهديده بقتل رجل كان يُدعى «مَربع»، فما قول جرير:»زعم الفرزدق أنْ سيقتل مربعاً، فابشر بطول سلامة يا مربعُ»، إلا تشديداً على افتقاره إلى الشجاعة والعزم على إسالة ولو قطرة من دم «مربع». ولعل تهديد الفرزدق يشبه إلى حد بعيد تلك التهديدات بالقضاء على تنظيم «داعش» وسحقه واجتثاث شأفته على المستوى العسكري، وتجفيف منابع فكره على المستوى التربوي والثقافي، فالتنظيم يتحرك بسهولة وتحت أنظار سائر أجهزة الرصد والتجسس والأقمار الصناعية في العالم، فضلاً، وهنا مقصد كلامنا الأساسي، عن ضرب التنظيم جذوره عميقاً في مختلف أشكال التواصل والتلقي، وبخاصة في المناهج المدرسيّة العربية الطافحة بـ «الدعشنة» التي أضحت مصطلحاً يُطلق على كلّ نافر ومستغرب ومتطرف وإقصائي في التعليم الديني. وقد تمّ، بعد إطلاق صافرات الإنذار، تعديل وتصويب وتصفية الكتب المدرسية من الأفكار المتطرفة، وطالعتنا وزارات التربية والتعليم في غير بلد عربي بالبشارة بأنّ المناهج صارت خالية من شوائب الفكر التكفيري الاستئصالي. بيْد أنّ الوقائع اللاحقة أثبتت أنّ شيئاً لم يتغيّر، فلا تزال الفتاة الصغيرة في الصف الأول الابتدائي تسأل أمها: لماذا يقطعون يد السارق، ولماذا لا يحبسونه عقاباً على جريمته؟ في حين يسأل طالب في الصف الرابع أباه: لماذا لا يدخل الجنة سوى المسلمين؟ أما الطفلة ذات التسع سنوات فمكثت ليالي وهي «تهلوس» لأنّ مدرّسة التربية الإسلامية أخبرتها أنّها ستُشوى في نار جهنم، لأنها لا ترتدي الحجاب! وعن عذاب القبر الذي يُتحف به المعلّمون طلبتهم، فحدّث ولا حرج. وكنا تطرقنا من قبل للصورة المعلّقة على جدار إحدى المدارس الابتدائية، والمعنونة بـ «عقوبة تارك الصلاة»، وكانت لطفلتين صغيرتين ميتتيْن، الأولى (محافظة على الصلاة) مستلقية بكل وداعة على ورق أخضر ويشعّ منها النّور، والثانية (تاركة الصلاة) متفحّمة مشوّهة، ملطخة بالدماء، ملتفة أفعى عليها، ومحاطة بحجارة سوداء من سجّيل. لم تتغيّر العقلية المتزمتة التي صاغت المناهج «الجديدة»، ولئن تغيّرت قليلاً، فإنّ «المنهج الخفي»، أي المعلّم، لم يتغيّر، ومعلوم أنّ مدرسي التربية الإسلامية المتخرجين من كليات الشريعة يغلب عليهم التشدّد، لا سيما أنهم اختاروا بمحض إرادتهم الالتحاق بهذا الحقل، فترى السواد الأعظم منهم ينظّرون للتزمت باعتباره جهاداً في سبيل الله. ومن جملة ما يسترعي المراقب هو طبيعة التدريس الديني الذي يركّز على الحدود والأحكام الجزرية المرعبة، ويتغافل عما في الدين من قيم مشتركة بين سائر البشر تدعو إلى التعاون والمحبّة والتكافل والتعاضد، وتحث على الصدق في التعامل واحترام المواعيد، والإخلاص في العمل، ومساعدة المحتاجين، والرفق بالصغار والشيوخ، واحترام النساء، وتوقير العلم والعمل والإنجاز، وتقبّل الآخر، بصرف النظر عن دينه وعرقه وطبقته وهُويته وجنسه، وتلك قضايا جامعة لا إشكال يعتريها، إن كان ليس ثمة بُدّ، من الأساس، عن التعليم الديني. وإن شاء من شاء من أولي الأمر ألا يكرّر وعيدَ الفرزدق، وأن يذهب بعيداً في تجفيف منابع الفكر الداعشي، فليولِّ الأمر إلى وزارات الثقافة، لا التعليم ولا الأوقاف، لأنّ التزمت يلزمه الانفتاح، وتقاومه الفنون، وتحاصره المهرجانات التي يتعانق فيها الغناء مع الموسيقى والرقص، كما يخنق التزمتَ تعميقُ تدريس الفلسفة وتعميمها، وإحياء علوم المنطق والتفكير النقدي. بيْد أن صانع القرار لا يولي هذا الأمر اهتماماً، بل لا يأتي على ذكره، وليس أدلّ على ذلك من خلو البيان الوزاري لعمل الحكومة الأردنية الجديدة من كلمة «ثقافة»، مع أنها كلمة السرّ لأي تغيير حقيقي، إن كنا، حقاً، ننشد التغيير، ونتوّخى حراسة المستقبل، وصيانة أحلام أطفالنا من ظلام الكوابيس! * كاتب وأكاديمي أردني