ما أكثر الأقوال والكلمات التي تمر علينا حين نقرؤها أو نسمعها، لكنها لا تدخل عقولنا أو قلوبنا، لأنها تجد أقفالا مؤصدة تحول دون دخولها. انغلاق العقول والقلوب يعني السماح لتلك الأقوال- إن كانت باطلة- بأن تظل أوهاما تفسد علينا رؤيتنا للأمور، وغبشا يحجب عنا المسالك الصحيحة لحياتنا. وعندما تكون الأقوال صحيحة ومفيدة فإن هذا الانغلاق يضيع علينا الانتفاع بآثارها ونتائجها الإيجابية في ترقية أوضاعنا. لابد لنا من فتح تلك الأقفال أو لنقل كسرها فلا ينبغي لعقل أن يقفل، ولا لقلب أن يغلق. بالطبع لا توجد أقفال بمعناها المادي، لكن هناك مغاليق فكر كالأهواء الجانحة أو العادات الفاسدة تعمل عمل الأقفال. دعوني أضرب مثالا: كم قرأت أو سمعت هذه المقولة (التدخين يؤدي الى الوفاة المبكرة) على علبة السجائر أو (حزامك أمانك) في شعارات المرور أو (الكذب يهدم الثقة) مقولة يكررها الأب لابنه مئات المرات. أقفال القلوب لا تسمح لها بالدخول، فلن يكون لها أي تأثير لا في الأفكار ولا المشاعر ولا السلوك.. وستظل مجرد كلمات على طرف اللسان أو طي الأوراق واللافتات. وعندما نزيل الأقفال فسوف نبصر العواقب ونتصور النتائج، وبالتالي نتخذ مواقف عملية تجاه تلك الأقوال فننفي فاسدها وننتقي صالحها. هذا بالضبط ما يسمى (تدبر القول) فالتدبر عملية قلبية (فكرية وشعورية) للنظر في عواقب القول أي نتائج الاستجابة إلى ما يدعو إليه. وأعظم مجال على الإطلاق لتدبر القول هو قول ربنا: «كِتاب أنزلناهُ إليك مُبارك لِيدبرُوا آياتِهِ ولِيتذكر أُولُوا الألبابِ» ص: ٩٢. «أفلم يدبرُوا القول أم جاءهُم ما لم يأتِ آباءهُمُ الأولِين» المؤمنون: 68. وقد عتب علينا ربنا ترك التدبر في استفهام استنكاري: «أفلا يتدبرُون القُرآن أم على قُلُوبٍ أقفالُها» محمد: 24. إن التدبر عبارة عن آلية منهجية فعالة تجعل الإنسان المتدبِر يقوم بعملية تبصر للقول من حيث ما يدعو إليه من نتائج عملية، ولكي نتدبر نحتاج إلى خطوتين: 1- القراءة المتأنية أو الاستماع المنصت، فهما ييسران للذهن فرصة النظر إلى المعاني دون عجلة، قال تعالى: «ورتِلِ القُرآن ترتِيلا» سورة المزمل:4. وقال تعالى: «وقُرآنا فرقناهُ لِتقرأهُ على الناسِ على مُكثٍ ونزلناهُ تنزِيلا» سورة الإسراء: 106، ومعني «على مُكثٍ» (على تؤدة وتأنٍ). وقال تعالى: «وإِذا قُرِئ القُرآنُ فاستمِعُوا لهُ وأنصِتُوا لعلكُم تُرحمُون» سورة الأعراف: 204. وقد نحتاج إلى ترديد أو إعادة القراءة أو الاستماع للآية عدة مرات لنتدبرها، فالحسن البصري- رحمه الله- أخذ يردد في ليلة قوله تعالى: «وإِن تعُدُوا نِعمة اللهِ لا تُحصُوها إِن الله لغفُور رحِيم» سورة النحل: 18 حتى أصبح، فقيل له في ذلك، فقال: إن فيها معتبرا ما نرفع طرفا ولا نرده إلا وقع على نعمة وما لا نعلمه من نعم الله أكثر. 2- التأمل بتركيز النظر في الآيات، للنظر في نتائج الاستجابة للآية في واقع الحياتي، لأن ضعف الإحساس بارتباط القرآن الكريم بالواقع يمنع من الفهم والتدبر يقول ابن القيم عن القرآن الكريم: «أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له، ويظنونه في نوعٍ وفي قومٍ قد خلوا من قبل، ولم يعقبوا وارثا، وهذا هو الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن». كذلك بين الحسن البصري أن التدبر هو (الاتباع بعلم) فقال: «وما تدبر آياته إلا اتباعه بعلمه، والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن كله وما أسقط منه حرفا واحدا وقد أسقطه كله ما ترى له في القرآن من خلق ولا عمل». ولنأخذ مثالين في التدبر: 1- قوله تعالى: «وأقِمِ الصلاة إِن الصلاة تنهى عنِ الفحشاء والمُنكرِ ولذِكرُ اللهِ أكبرُ» سورة العنكبوت: 45. فهل تدبرنا أن الصلاة لها أثران: كبير وهو الاستقامة، وأكبر وهو: ذكر الله، وهل واقعنا يشهد هذين الأثرين؟ 2- قوله تعالى: «يا أيُها الذِين آمنُوا كُتِب عليكُمُ الصِيامُ كما كُتِب على الذِين مِن قبلِكُم لعلكُم تتقُون» سورة البقرة: 183. فهل تدبرنا ان الصيام ليس مجرد إمساك عن شهوتي البطن والفرج، لكنه وسيلة مرجوة لتحقيق الوقاية الروحية والبدنية؟ وهل يتحقق ذلك في واقعنا؟ أما وقد اقترب «شهرُ رمضان الذِي أُنزِل فِيهِ القُرآنُ هُدى لِلناسِ وبيِناتٍ مِن الهُدى والفُرقانِ» فليقم كل منا بفض الأقفال وفتح القلوب لهدايات السماء المرتقبة.