خلال الأسابيع العديدة الماضية، تعرضت مساحات كبيرة من الحياة الفرنسية للشلل إثر سلسلة من الإضرابات بما كان يُعرف من قبل في عصر ما قبل ثاتشر باسم «الأوتاد الطائرة»، وهي عبارة عن وحدات من الرجال الأشداء المدربين تدريبًا خاصًا والمجندين من قبل الاتحاد العام للعمال، وهو الجناح النقابي للحزب الشيوعي الفرنسي. وكانت مهمتهم هي منع الموظفين في القطاعات الحساسة من الاقتصاد الفرنسي من بلوغ أماكن عملهم، وبالتالي، فرض موجة من الاضطرابات على الدولة بأسرها من خلال التأثير المضاعف للأحداث. وكان المبرر لتلك العمليات التي تشبه أسلوب حرب العصابات هو مشروع القانون الجديد الذي قدمته الحكومة الاشتراكية للرئيس فرنسوا هولاند. وبعد مضي شهور من المفاوضات مع كافة نقابات العمال، باستثناء الاتحاد العام للعمال، كانت النقابات قد قبلت مشروع القانون الجديد مع بعض التعديلات عليه. وقال الاتحاد العام للعمال إنه لن يقبل بأي شيء أقل من الانسحاب الكامل لمشروع القانون. ولتحقيق ذلك، قال زعماء الاتحاد العام للعمال إنهم سوف يفعلون كل ما يحتاجه الأمر، حتى لو كان ذلك يعني إغراق اقتصاد البلاد في الركود. ولأن الأمور الفرنسية ليست بسيطة بحال، جاءت حرب الاتحاد العام للعمال على الاقتصاد الوطني في وقت من المفترض أن البلاد تقبع فيه تحت ضغوط حالة الطوارئ التي فرضها القانون في أعقاب الهجمات الإرهابية في باريس في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي. وقد يتساءل من لا علاقة له بالأمر عن نوعية حالة الطوارئ التي تسمح لبضع عشرات من «الأوتاد الطائرة» بفرض فدية على البلاد؟ وقبل أن نبحث أو نعالج هذه المسألة علينا توضيح المزيد من النقاط في هذا السياق. ونبدأ بمشروع القانون المقترح، والمقدم من قبل المشرعين كوسيلة من وسائل إصلاح قوانين العمل الفرنسية الصارمة، ولكنه لا علاقة له بذلك من قريب أو من بعيد. حتى مع التطبيق الكامل للقانون المقترح، فإنه سوف يترك فرنسا على رأس قائمة دول الاتحاد الأوروبي التي تطالب العمال بالعمل أوقاتًا أقل، واكتساب المزيد من الأموال، والتمتع بالحماية التي لا يمكن لأحد من مواطني الاتحاد الحلم بها إلا البريطانيون أو ربما البولنديون. يحاول مشروع القانون تحقيق أمرين اثنين؛ أولا السماح لأرباب الأعمال بالتفاوض حول القوائم كل ثلاث سنوات حتى يمكن مطالبة العمال بالمزيد من العمل عند اكتمال الدفاتر القديمة للشركة والعمل بوتيرة أبطأ في حالة ركود أعمال الشركة. وعلى أي حال، فإن إجمالي ساعات العمل يجب ألا يتجاوز 35 ساعة في الأسبوع، وهو ما كان عليه الأمر قانونيًا منذ فترة التسعينات. والمقترح الثاني للقانون هو السماح للصفقات ما بين أرباب الأعمال والموظفين داخل كل مؤسسة من المؤسسات التي توظف أكثر من 50 موظفًا، وإن كان ذلك ضمن حدود الاتفاقيات المتفاوض بشأنها بواسطة نقابات العمال، على مستوى كل قطاع من قطاعات الاقتصاد. ولكن كيف تمكن الاتحاد العام للعمال من تحدي حالة الطوارئ، والتسبب في شلل للاقتصاد، ثم، في وقت كتابة هذا المقال، الإفلات من العقاب بكل سهولة؟ لا يرجع السبب إلى الشعبية التي يتمتع بها الاتحاد العام للعمال وسط ما يسمى بالطبقة العاملة الفرنسية، بل في واقع الأمر، أن «النقابة»، كما يطلقون عليها في فرنسا، يقدر عدد أعضائها بنحو 400 ألف عضو من أصل قوة العمل الفرنسية البالغة 30 مليون مواطن. والحزب الشيوعي الفرنسي، وهو التوأم السياسي للاتحاد العام للعمال، حصل على ما يقرب من 1 في المائة من الأصوات فقط في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في عام 2012. إذن، كيف تمكن الاتحاد العام للعمال من فعل ذلك؟ تكمن الإجابة فيما يطلق عليه طلاب الستالينية «مراوح السيدات الإسبانيات». نعرف جميعًا ذلك النوع من المراوح الذي كانت تستخدمه الحسناوات الإسبانيات «القشتاليات» في العصور الوسطى لإخفاء والكشف عن وجوههن، ولا سيما أثناء رقصة «باسودوبل» الشهيرة. فأثناء رقص السيدة يُكشف المزيد والمزيد من وجهها عن طريق تنحية المروحة جانبًا الشيء القليل. وفي الخطوة الأخيرة من الرقصة تضغط السيدة على الزنبرك في منتصف المروحة لفتحها بشكل كامل، وتكشف عن وجهها تمامًا، وتطعن بها الفارس الراقص أمامها. تقول النسخة السياسية من مراوح السيدات الإسبانيات البدء بشن عدد من الإضرابات على نطاق صغير، ودعونا نسميها بالمضايقات، من أجل اختبار الأجواء، قبل الانتقال إلى الإضرابات الكبرى، والتي تسبب سيلاً من الاضطرابات العمالية على سبيل الوصول إلى الإضراب العمالي العام. منذ عام 1920 كان الحزب الشيوعي الفرنسي والاتحاد العمالي التابع له يستخدم هذا التكتيك في كثير من المناسبات، وحالفهم النجاح في كثير من الأحيان. وخلال العقد الماضي أو نحوه، استخدم الحزب أسلوب المروحة الإسبانية لسحق محاولات رؤساء الوزراء السابقين مثل آلان جوبيه (1997)، ودومينيك دو فيلبان (2007)، لإدخال إصلاحات مماثلة. كان ذلك التكتيك بالأساس من تخطيط الجبهة الأممية الشيوعية (كومنترن) في فترة العشرينات من القرن الماضي، عندما كان النظام البلشفي الجديد في موسكو، وخشية من هجمات القوى الرأسمالية، يسعى لوسائل إضعاف الأعداء المحتملين من الداخل. في عام 1919، أي بعد أقل من عامين من الاستيلاء على السلطة، قرر لينين الانشقاق عن الاشتراكية الدولية، والتي اعتبرها مفعمة بالبرجوازية، وإنشاء شبكته الخاصة. وكان الهدف الأساسي من وراء ذلك هو «بلشفة» الأحزاب الاشتراكية في أوروبا، وعلى رأسها فرنسا وألمانيا. ولقد نجمت عن ذلك انقسامات كبيرة داخل الحركة العمالية في أوروبا وأدت إلى تكوين الحزب الشيوعي الفرنسي بعد مؤتمر تور. كان لينين، البارع في التكتيكات السياسية، يدرك أن «حزب طلائع البروليتاريا» لا يمكن أن يبلغ السلطة من خلال أي نوع من الانتخابات الحرة، وكان بديله الوحيد هو النزوع إلى استخدام القوة الثورية. وفي كتيبه الشهير بعنوان «أطروحة أبريل» دعا بالفعل إلى التركيز على الفئات النخبوية الصغيرة التي ترفع شعار «الفئة القليلة، الأفضل كثيرا!» ولكن أين يمكن أن نبحث عن «الفئة القليلة»؟ جاءت الإجابة على يد اثنين من رؤساء الكومنترن وهما غريغوري زينوفييف ونيكولاي بوخارين في كتيبات مقتضبة. كان على الأحزاب الشيوعية الجديدة في الدول الرأسمالية التركيز على بناء شبكات النفوذ، والتعاطف، والدعم النشط في «القطاعات العصبية». وهذا يعني أوساط المثقفين، والإعلام، والأكاديميين، والصناعات الاستراتيجية مثل وسائل النقل العام، ومحطات توليد الطاقة، والموانئ البحرية والجوية، ومحطات النفط والغاز، ومصانع الأسلحة. وكان هناك اهتمام خاص موجه إلى بناء شبكات داخل القطاع العام بسبب عدم سهولة فصل الموظفين منه. ومن خلال استخدام مزيج من الترهيب، والإلهام، والرشوة النفسية وربما المادية، كانت الطليعة الأساسية تعمل على تنمية قاعدة دعم واسعة النطاق بفضل «الأغبياء المفيدين»، وهم المواطنون الجهلاء من أصحاب النيات الحسنة الذين يمكنهم الانضمام إلى النضال من أجل «العدالة والمساواة». وكان الرجل المكلف من قبل الكومنترن بتطبيق هذه النظرية في فرنسا هو يوجين فرايد البلشفي التشيكي الأصل الذي لعب دور العراب لكل من الحزب الشيوعي الفرنسي واتحاد العمال العام. وكان دور فرايد فعالاً ومؤثرًا في تشكيل الحكومة الائتلافية للجبهة الشعبية في عام 1937 والتي نفذت مجموعة من الإصلاحات الاجتماعية في فرنسا. وفي ذلك الوقت، عمل الكومنترن على تجنيد وتدريب العملاء المولودين في فرنسا، ومن أبرزهم جاك دوكلو، وأندريه مارتي، وموريس توريز الذي تولى فيما بعد منصب الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي. أعدم ستالين كلاً من زينوفييف وبوخارين في عمليات التطهير في ثلاثينات القرن الماضي وتم حل الكومنترن بصورة رسمية في عام 1943 عندما انضم ستالين لدول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. كما تفكك اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية الذي أسسه لينين في عام 1991، ومن ثم تلاشت معظم الأحزاب الشيوعية في البلدان الغربية، كلها باستثناء الحزب الشيوعي الفرنسي الصغير. وبعبارة أخرى، تغير العالم كثيرًا، مما جعل من تكتيك مروحة الراقصة الإسبانية مجرد محاولة زائدة عن الحاجة ولا معنى لها، باستثناء اتحاد العمال العام المقتطع من خضم الأحداث، وهو الشبح الذي لا يزال يخيف الدولة الفرنسية بتهديدات إشعال نيران المروحة المحترقة بضربة واحدة مفاجئة.