الأصل أن ثقل الدول في العلاقات الدولية يقاس بحجم مساهمتها في الاقتصاد العالمي، بنسبة إجمالي ناتجها المحلي إلى إجمالي الناتج العالمي، باعتبار أن العلاقات الدولية أساسها اقتصادي أولاً وأخيراً، والذي يشمل، بصفة أساسية، التجارة الدولية، وحركة رأس المال عبر الحدود، وانتقال الأشخاص الطبيعيين في صورة قوة عمل متحركة عبر منافذ حدود الدول بحثاً عن شواغر وظيفية، إضافة إلى تصدير أو ترخيص بتأجير براءات الاختراع والتكنولوجيات الأولية والوسيطة والنهائية. وإذا ما أسقطنا هذا المتطَلَّب على الاتحاد الأوروبي ببلدانه ال28 كمنظومة سياسية واقتصادية متكاملة، فإنه يستحق بكل جدارة وضعه في مصاف كبريات الدول ذات الثقل الوازن في العلاقات الدولية. ولكن عدد سكان الاتحاد الأوروبي ببلدانه ال28، لا يزيد على 500 مليون نسمة، وهو ما يشكل 7.3% من إجمالي سكان العالم. كما أن مساحته البالغة 4.325 مليون كيلومتر مربع لا تشكل سوى أقل من 1% (0.8%) من إجمالي مساحة العالم البالغة 510.1 مليون كيلومتر مربع. هذه المعطيات لمصادر القوة الذاتية الضخمة التي يحوزها الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى حيازته ثاني أهم عملة دفع وتداول واحتياط عالمية هي اليورو، ورصيد ضخم من العلاقات الدولية الذي كسبه وورثه من ماضي بلدانه الاستعماري الذي غطى قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية وأستراليا، يُفترض منطقياً أن تضع الاتحاد الأوروبي، وبمعيته بقية بلدان القارة العجوز، في موقع قوة متقدم ومقرر في الحياة الدولية. ولكن هذا غير متحقق في الواقع العملي بصورة تثير الدهشة والاستغراب، إما لأن هذه المنظومة غير راغبة في أخذ موقعها المستحق وممارسة دورها القيادي البارز اعتباراً بحسابات الربح والخسارة وتهيُباً من أكلاف باهظة تذكرها بها دائما كوارث الحربين العالميتين الأولى والثانية التي حلت بها، وإما أن كل معطيات القوة سالفة الذكر، غير كافية بذاتها لأن تصنع من أوروبا لاعباً رئيسياً فاعلاً في مجريات الأحداث العالمية، والاستعاضة عن ذلك بالقبول، صاغرة، بدور الخفير المواكب للدور القيادي للولايات المتحدة لشؤون أمم وشعوب الأرض كافة. إنما الأمر ليس مقصوراً في الحقيقة على تلك الفرضيات، وإنما هناك معطيات أخرى معطلة للدور الأوروبي الفاعل في الحياة الدولية. فأوروبا غير موحدة، وحتى الجزء الموحد منها، أي الاتحاد الأوروبي غير متجانس أصلاً. لقد أريد للاقتصاد أن يقتحم بنى عصبياتها الثقافية عنوة، وينشىء إنساناً أوروبياً جديداً، ووعياً أوروبياً جماعياً متجانساً، فجاء الحصاد هزيلاً، فهو لا يزال قاصراً على النفعية الاقتصادية. فعدد بلدان أوروبا 50 دولة، بمساحة إجمالية تبلغ 10,180,000 كم مربع وإجمالي عدد سكان قُدِّر بنحو 740 مليون (إحصاء عام 2011)، ونحو 50 لغة . صحيح أن بقية الدول غير المنضوية في الاتحاد الأوروبي، وعددها 22 دولة، معظمها دول صغيرة وهامشية بالنسبة لدول المحور الأوروبي، لكن أكثر من نصف دول الاتحاد هي في الواقع دول طرفية أصلاً . ولذلك فإنها، كمنظومة سياسية موحدة، تبدو غير متجانسة، فهناك اعتراض قوي بين الدول المحورية للاتحاد، على اتباع سياسة خارجية موحدة، والاكتفاء بدلاً من ذلك بإنشاء مفوض خاص للشؤون الخارجية. كما أن الاتحاد الأوروبي لا يمتلك ذراعاً عسكرية مستقلة، فهو سعى في الواقع لإنشاء جناحه العسكري الخاص به، بعيداً عن حلف الناتو، لكنه جوبه بمعارضة شديدة من جانب الولايات المتحدة. ولابد للمتابعين للشأن الدولي أنهم لاحظوا كيف تم استبعاد أوروبا من المشاورات الأمريكية الروسية الثنائية حول الأزمة السورية. مثلما لاحظوا بالضرورة الإهانات التي ساقها المرشح الجمهوري للرئاسة الأمريكية دونالد ترامب، حين وجه لها تقريعاً مهيناً باتهامها بعدم المساهمة المالية الكافية في جهود الخفارة الأمريكية العالمية. وحين ألمحت سلطتها الرابعة بأنها تساعد بغزارة في فرش الأرض إعلامياً لأي سياسة أمريكية، قيل لها إن هذا لا يكفي، فالمطلوب منها أن تقدم مساهمات أكبر. ثم انظر إلى قرار المفوضية الأوروبية بوضع ملصقات على منتجات المستوطنات الإسرائيلية، إنه قرار ضعيف يعكس حقيقة حجم القارة الأوروبية في صياغة العلاقات الدولية، فالقرار لا يشكل سوى أقل من 1% من صادرات إسرائيل إلى بلدان الاتحاد الأوروبي التي بلغت 13.2 مليار يورو في عام 2015، أي نحو 132 مليون دولار. بهذا المعنى يمكن القول إن أوروبا غير مقررة في العلاقات الدولية. alsayyadm@yahoo.com