جعلتنا الصحوة أبعد عن الإنسان وأقرب إلى الروبوتات الآلية المطيعة، وفق برمجة أرادها اللاعبون الكبار خلف صورتها الظاهرية، وأي شخص خارج إطارها هو شخص أقرب إلى الفاسد غير السوي، وهو بحاجة ماسة إلى الهداية، علمتنا الصحوة أن الأخلاق لا ترتفع إلا في نموذجها وتنخفض خارجها، وأن صاحب العلم المتفقه في الدين هو كل من قصر الثوب وأطلق اللحية وخلع العقال، علمتنا أن نُخرج الناس من الملة بلمح البصر طالما هم بعيدون عن فكرها وقطيعها، علمتنا أن ننتقص من خصومها على أية حال مهما بلغ علمهم، وأن نتجهم في وجوه الآخرين، ونشكك في ضمائرهم ونواياهم وتصرفاتهم، علمتنا أن نصم المخالفين بالتغريبيين. لم تقبل الصحوة بأقل من التبعية الكاملة لأفكارها، لذلك قدمت كل ما تستطيع لاسترضاء كل شيء وكل أحد، وجاءت بمفاهيم مشوهة من أجل تحقيق ذلك الهدف، واستمات أفرادها في تعميمها كمسلمات في أحايين كثيرة. وأتذكر مما أتذكره كيف أن كثيرين ممن استحوذت عليهم الصحوة بفكرها، ونشرتهم في كل مكان – المدرسة - المسجد – المخيمات الصيفية – الشارع – المناسبات الاجتماعية، تسابقهم في ابتداع بعض حركات التكبير والصلاة، وإطلاق الأحكام القطعية في المسائل الخلافية، كموضع اليدين على الصدر أو البطن، ومستوى رفع اليدين للتكبير، وتوزيع مثل تلك الأحكام ليس على علم شرعي كامل، بقدر استنادها إلى اجتهادات من بعض أولئك الصحويين الصغار، اختلط معها الصواب بالخطأ، لأنها خضعت لمزاجية المتحدث الصحوي بها، وإطلاق العنان له ليقول بكيفية الأشياء طالما هو تحت سيطرة فكر الصحوة، ليشغلوا الناس بكيفيتها وجوازها من عدة طرق، بينما لم يرد في منهجهم أي تقدير للعقل وقدراته وضرورة إعماله في المطروح، فالعقل آخر ما يمكن الإشارة إليه في المنهج الصحوي. هكذا بكل بساطة تمكنت الصحوة من تجنيد البسطاء فكرا وعلما ونشرهم، لأن الهدف من - وجهة نظري - لم يكن توضيح تعاليم ومفاهيم الدين وبساطته بقدر الهدف البراجماتي المتمثل في الاستحواذ على الشارع. جاءت الصحوة بنماذج أقرب إلى الدراويش السطحيين علماً وخلقاً منهم إلى المتفقهين الحقيقيين، لهم القدرة على التصدي للإفتاء حتى لو لم يسألهم أحد، ليصنعوا مجتمعا يعرف أفراده الكثير من المعلومات المغلوطة والمشوهة، وكرست عبارات منتقاة استخدمت في غير مواضعها، لا يدعمها منطق التفكير والحوار، مثل "يقوض الله لهذا الدين من ينصره"، من أجل حشد أكثر عدد ممكن من المناصرين والمتعاطفين، حتى وإن لم يكن متشدداً منخرطاً في قطيعهم، يناقشك ويحاججك باسم الدين وهو أبعد منك إلى المسجد، يستمع للغناء وهو مؤمن بتحريمه، ينكرون تحديد مدة عقد الزواج ويسافرون لما وراء البحار ليمارسوه، هكذا أوجدت جمهور المتناقضين والمتناقضات في المجتمع. وهو ما نعاني من آثاره حتى اليوم، فترى المعارضين لتصرفات الشارع ليس من باب الخطأ والصواب، بل من باب القول بالحلال والحرام، والأخيرة جاءت نتيجة تلقين أكثر منه إيماناً وتمكناً وفهماً لمقاصد الدين ومضامينه، بعكس الأولى التي يترتب عليها المنطق والوعي والإدراك والمسؤولية، حتى تصدى للرد كل من هب ودب، ونصّب نفسه غيوراً على الدين من دون المسلمين.