كلما زرت مدينة، بحثت عما يميزها عن المدن الأخرى، فالمدن كما يقال مثل النساء، لكل مدينة عطرها ورائحتها ومذاقها، والمدينة ليست بيوتاً أو أبنية أو أشكالاً هندسية، بقدر ما هي بشر من لحم ودم، وثقافة، وفنون، وعلاقات، وتاريخ وعادات، وبيوت عبادة، وطريقة عيش، وملبس ومأكل، وهو ما يكون العقلية الجمعية وما يسمى بالإنجليزية: Mentality.والمكان بالطبع يؤرخ للذاكرة، ويدل على الزمان، ففي حين تزدهر المدن بالسلام والعدل، تنكفىء وتتراجع بالحروب والطغيان. وحسب ابن خلدون في مقدمته الشهيرة قبل أكثر من سبعة قرون، ربط الظلم بالخراب، ومقابل ذلك ربط العدل والمساواة بالعمران والعكس صحيح، فالعدل هو أساس العمران، ومن دونه لا يكون هناك أمن ولا استقرار، وحتى إن كان لحين، فإنه سرعان ما يتدهور، بسبب غيابه. حين بدأ داعش بعد احتلال الموصل بتدمير النمرود العظيم، وإعدام الثور المجنح، وتجريف مدينة الحضر، أحسست بنوع من الغصة، ألا يكفي إذلال البشر؟ ثم ما شأن التاريخ لكي يتم الانتقام منه؟ لكنني أعدت قراءة المشهد راهنياً، فللبشر ذاكرة وحضارة وأماكن وعمران وتاريخ، وهو ما يراد محوه أيضاً، أي استهداف البشر والشجر والحجر، وكل ما يدل على الحاضر من الماضي، وتلك وسيلة يستهدفها الإرهاب لغسل الأدمغة وتغيير خرائط التاريخ والحاضر، وهو ما استخدمه أيضاً بخصوص تدمير بعض معالم تدمر السورية وتحطيم بعض التماثيل تحت عناوين ماضوية متخلفة. ولعل المثال الأصرخ، هو ما تقوم به إسرائيل حين تسعى لتزييف التاريخ، وتشويه وقائعه وإنساب بعضها إلى غير أهلها، سواء بخصوص القدس الشريف أو عموم فلسطين. المدن هي مستودع كبير للذاكرة، وهي أقرب إلى البارومتر الذي يقاس من خلاله درجة ثقافة الشعوب والأمم، تحضرها أو وحشيتها، تقدمها أو تخلفها، قوتها أو ضعفها، غناها أو فقرها، وصعودها أو نزولها. ومثل هذا الخزان التاريخي لا يخص الماضي فحسب، بقدر ما يتعلق بالحاضر والمستقبل. والأمم الحية تدرك أهمية ذلك وتسعى إلى إحاطته بالرعاية ليكون أساساً للأجيال الحاضرة ولاستشراف المستقبل أيضاً. في كل زيارة لمدينة إربيل الكردية أشعر بأن هذه المدينة التاريخية الصغيرة، التي هي من أقدم المدن المسكونة في العالم، وكنت قد عرفتها منذ الستينات، أصبحت مدينة مزدهرة وحديثة وفيها أسواق كبيرة، إضافة إلى الأسواق القديمة والقلعة التاريخية، وفيها الحدائق والفنادق والمطاعم والمعالم الثقافية، فلم يعد بالإمكان اجتياحها كما كان يتم في السابق لملاحقة متمردين، أو ثوار، أو عصاة خارجين على القانون، وهو ما عبرت عنه في محاضرة لي عن جيبوليتيك المسألة الكردية من منظور مستقبلي، بدعوة من جمعية الصداقة العربية - الكردية. أصبحت إربيل مدينة التقاء مصالح وتقاطع سياسات داخلية وخارجية، إقليمية ودولية، وهناك شركات ومكاتب لمنظمات دولية وقنصليات أجنبية وامتدادات إقليمية ما لا يمكن شطبه بجرة قلم، حتى إن داعش حين اقترب منها أدرك خطورة الأمر، فتحرك الجميع: الإقليميون والدوليون لحمايتها، لأنها تمثل رمزياً مركز لقاء وتبادل مصالح. المدن تمثل السياسات الحضرية في الاقتصاد والتجارة والعمارة والثقافة، وهي مثل أية ظاهرة اجتماعية تنمو وتتطور ويكون لها هوية، وهذه ستكون مفتوحة بالطبع، وليس كما كانت المدن في السابق، خصوصاً في ظل العولمة، فمدينة مثل دبي أصبحت عالمية بعد أن كانت أقرب إلى قرية في السبعينات. ويكفي أن تدخل مطارها وتقرأ اللوحات لمغادرة وقدوم الطائرات لتدرك أنك أمام مدن تتسع للجديد وللتغيير وللتطور، خصوصاً مشاهد العمران والجمال، وما خطط له وما أنجزه الإنسان، أوَليس من دلالة لتأسيس وزارة باسم السعادة وأخرى باسم التسامح؟ في براغ تدرك عظمة الإنسان، فهذه المدينة التي بناها الملك الروماني تشارلز الرابع في القرن الرابع عشر الميلادي، بنى معها صروحاً تاريخية مثل جسر تشارلز (الحجري)، وكاتدرائية القديس فيتوس، وجامعة تشارلز، أقدم جامعة في أوروبا الوسطى. ولا تزال بعض شوارع براغ وأزقتها تهديك إلى عبق التاريخ، بحيث تشعر معها كأنك تعيش في ذلك الزمان، حيث الأبراج الذهبية التي تستعيد الماضي بازدهار الحاضر. لم تعد المدن كما كانت في السابق مطوقة بالأسوار، وإن وجدت، فإنها للذكرى، حيث البوابات الكبيرة، لأنها أصبحت مفتوحة بحكم التبادل التجاري والمصالح الاقتصادية، والتفاعلات الثقافية، وهكذا أصبح أكثر من نصف سكان العالم يعيش في مدن وبلدات يرتفع فيها مستوى التوسع الحضري عاماً بعد آخر. وبقدر الانبهار ببعض المدن، مثل ريودوجانيرو، وفيينا، وبراغ، وباريس، وفينيسيا، والإعجاب بمدن أخرى مثل بودابست، وكولون، وجنيف وأمستردام، ودبي، وفاس، وبيروت، على الرغم من نكباتها، فإن الحزن سيكون شديداً على بغداد، المدينة التي كانت واعدة في الخمسينات والستينات، ومفتوحة ومزدهرة، وعامرة بالحدائق والجسور والعمران والمعارض والسينمات والمسارح، حيث التاريخ العربي القديم ممزوجاً بالحضارة العربية - الإسلامية لمدينة الرشيد، فإذا بالحروب العبثية والحصار وبعدها الاحتلال، تسلب بغداد روحها، حتى لتغدو مدينة هرِمة كئيبة وحزينة، ومكفهرة، فضلاً عن تدهور الأمن وانفلاته. كيف أصبحت مدينة الحكمة والجامعة المستنصرية وجامع الإمام الأعظم (أبو حنيفة النعمان)، وحضرة الإمام موسى الكاظم، وعيون المها بين الرصافة والجسر، والرفاه والبهجة والأبهة، أسوأ مدينة في سبل (العيش)، وليس عبثاً أن يتم تصنيفها كآخر مدينة في سلم المدن. وأخيراً هل نستطيع إقامة مدينة حقوق الإنسان، أي المدينة التي تتوفر فيها سيادة القانون واستقلال القضاء، وفصل السلطات، والحريات العامة والخاصة، واختيار المحكومين للحكام بصورة دورية وتغييرهم، أي مدينة هدفها الإنسان، مثلما هو وسيلتها للوصول إلى غاياتها النبيلة؟ ويبقى الإنسان غاية ووسيلة، هو مقياس كل شيء حسب الفيلسوف الإغريقي بروتوغوراس، ولأجله تبنى المدن وتكون حقوقها من حقوقه. عبد الحسين شعبان drhussainshaban21@gmail.com