اختلف علماء المسلمين في صيام شهر رمضان وفي مسائل أعظم من قضية إجازة شرب الماء في رمضان، وكان النقاش في هذا المجال مفتوحا دون تشدد أو إلقاء التهم على الآخر شن نشطاء على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" هجوماً كبيراً على أحد الكتّاب بسبب مطالبته بتدخل الفقهاء للنظر في إجازة شرب الماء في رمضان، لأن الماء (من وجهة نظر الكاتب) ليس غذاء بل هو واسطة، وبالتالي فإن الصيام مضر بالصحة في ظل ارتفاع درجة الحرارة وطول ساعات النهار والصيام في فصل الصيف. وعلى هذا الأساس، اعتبر البعض أن مثل هذه المطالبات تدخلا سافرا في أصول الدين والشريعة وأركان الإسلام، ومحاولة لزعزعة ثوابت الدين وأحكامه، والبعض الآخر استغل استغراب الناس من إسقاط ركن رئيس من موجبات الصيام، وتم تدشين (هاشتاق) بعنوان "ليبرالي يجيز شرب الماء في رمضان" كدليل إثبات للأفراد والمجتمع على مساوئ الليبرالية ومحاولة أتباعها هدم الدين. وليس بمستغرب تفاجؤ العديد من الناس بإثارة مثل هذه المواضيع والمسائل في أمور الدين، بالرغم من أنها مستساغة عند فقهاء المسلمين، وليس هذا وحسب بل صدرت فيها أحكام شرعية مختلفة قديماً، وتم التعامل معها على أنها مسألة فقهية ومشكلة صحية تستوجب البحث والاجتهاد، ولكن نظراً لضعف الثقافة الدينية عند بعض الناس والتقليد الأعمى لرجال الدين، كان تعامل البعض مع هذه القضية سلبياً ويفتقر إلى أدبيات الحوار والنقد والأخلاق الإسلامية، فالإنسان كما قيل قديماً "عدو ما يجهل"، كما أن هذه القضية تعطي دليلا واضحا على تجاهل المقاصد الإسلامية من فرض الصيام من الأساس. فصوم رمضان مجرد فكرة كامنة في أذهان الناس، انعكست على أفعالهم وسلوكهم على شكل طقوس وتكاليف دون أن تصل إلى أعماق مشاعرهم ووجدانهم، فتحول الصوم من عنصر إيجابي يمنح الفرد الوصول إلى مدارج الكمال والإنسانية والتحرر من قوى الشر والفساد، إلى قيود تكبل عقل الإنسان وسلوكه في الشهر الفضيل، فالفرد ينطلق في صوم رمضان من موقع أداء التكليف، لا من موقع تربية النفس وسمو الأخلاق الإنسانية، ولهذا أصبح الصيام عند البعض مجرد الامتناع عن الطعام والشراب، ولهذا تكون ردود الأفعال قاسية وسلبية مع أية مسألة تتعارض مع الفكر السائد عن الصيام، مع الفجور في الخصومة. والأدهى من ذلك أن البعض لا يعلم أن فقهاء المسلمين قديماً قد ناقشوا في الماضي ما هو أعظم من مسألة إجازة شرب الماء في رمضان، ومع ذلك لا يتهمون بعضهم بعضاً بالفسوق والعصيان والزندقة، فقد ناقشوا حرية الفرد مع القدرة في اختيار الصوم أو الإفطار في رمضان وبدون قضاء الصوم!.. يقول الشيخ عبدالعزيز بن باز، رحمه الله، في تفسير قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيراً فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) بأن: "علماء التفسير –رحمهم الله– ذكروا أن الله سبحانه لما شرع صيام شهر رمضان شرعه مخيراً بين الفطر والإطعام وبين الصوم، والصوم أفضل، فمن أفطر وهو قادر على الصيام فعليه إطعام مسكين، وإن أطعم أكثر فهو خير له، وليس عليه قضاء، وإن صام فهو أفضل..". إلا أن الشيخ ابن باز، رحمه الله، ذكر أن تلك الآية نسخت، وأوجب الله سبحانه وتعالى الصيام على المكلف الصحيح المقيم، ورخص للمريض والمسافر في الإفطار وعليه القضاء، وذلك بقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون). هذا وقد روي عن بعض أهل العلم كما قال الشوكاني أن الآية السابقة لم تنسخ وأنها رخصة للشيوخ والعجائز، خاصة إذا كانوا لا يطيقون الصيام إلا بمشقة، وهناك من العلماء من قال إن الله تعالى بعد أن أوجب الصوم في الآية السابقة، وأسقطه عن المسافر والمريض، وأوجب عليهما عدة من أيام أخر بدلاً عنه، أراد أن يبين حكماً آخر لصنف من الناس مثل العطاش، فأسقط عنهم وجوب الصوم أداء وقضاء، فالآية الكريمة محكمة لا نسخ لها، ومدلولها حكم مغاير لحكم من وجب عليه الصوم أداء وقضاء. وهناك من يرى أن القرآن أمر أولاً بالصوم وهو الأصل في هذه العبادة، ومن لا يريد الصيام ولديه طاقة على ذلك فله الإفطار، ويرى هؤلاء أن الحكم القرآني ما زال باقياً بلا نسخ، كما أن مسألة نسخ آيات القرآن الكريم قائمة على الظنون والاحتمالات فلا يمكن التعويل عليها، لأن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال، وعليه فإن للشخص الخيار، فمن شاء صام رمضان، ومن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكين، وبذلك يتحقق هدف الصيام المتمثل في التقوى كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). ومما سبق، يتضح كيف اختلف علماء المسلمين في صيام شهر رمضان وفي مسائل أعظم من قضية إجازة شرب الماء في رمضان، وكيف أن النقاش في هذا المجال مفتوح دون تشدد أو تعنت وإلقاء التهم على الآخر بمجرد اختلاف وجهات النظر في ركن من أركان الإسلام الخمسة، والأهم من ذلك كله أن يقوم فقهاء اليوم في عصرنا الحاضر بإعادة النظر في الخطاب الديني السائد عن مفهوم الصيام، بحيث ينعكس على سلوكيات وأفعال الناس ويمتد إلى أعماق وجدانهم، كما يجدر بهم البحث عن حلول للمشاكل التي يواجها البعض من الناس في الصيام بسبب متغيرات العصر الحديث دون التشديد أو التضييق عليهم، فالله لا يكلف نفساً إلا وسعها.