عند مقاربة التحولات الجيوسياسية وانعكاساتها الإقليمية يبدو صعبًا على المراقب إغفال أحداث عالمية كبرى مثل نهاية الحرب الباردة، وصعود قوى مثل الصين والهند، وتصاعد تأثير العولمة في تشكيل العلاقات الدولية والفضاء العالمي. وهذا كله ترك مفاعيله الجوهرية على دول الشرق الأوسط. ومع الانتباه لهذا وتقدير تأثيراته، فإنّ ثمة محطات مفصلية أخرى غيّرتْ البُنى والقواعد التي تأسس عليها الشرق الأوسط منذ عقود. فمنذ بداية القرن الحادي والعشرين كانت هناك أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001. وغزو العراق 2003. وأحداث «الربيع العربي» وتوقيع الاتفاق النووي الإيراني في 2015 وتصاعد الخلاف الشيعي - السنيّ، وتنامي دور الفاعلين من غير الدول، وتحول التقدير الاستراتيجي الأميركي تجاه الشرق الأوسط، وانهيار أسعار النفط، وتعاظم تأثير وسائل الإعلام الاجتماعي في السياسة والأمن والاجتماع. وكما قال أحد المراقبين: «ليس من السهلِ على دول (عربية) تعيش بلا مؤسسات راسخة وواسعة التمثيل، استيعابُ هذا الدَّفْقِ من الزلازل» والصدمات. هذا التقديم المكثّف يعني ثلاث حقائق: 1. تحولت دول «مجلس التعاون لدول الخليج العربية» إلى مركز إقليمي مؤثر؛ فقد أسهمت الظروف الإقليمية والمحلية التي عصفت بالبلدان العربية الرئيسية ذات الثقل الاستراتيجي مثل مصر والعراق وسوريا في تزايد أهمية دور دول المجلس، ورتّبت مسؤوليات إضافية عليها. ففي حين كانت دول المجلس تستند إلى عمق تلك الدول وقوتها من أجل حماية النظام الإقليمي العربي عمومًا، وأمن الخليج بخاصة في مواجهة المشاريع الإقليمية الأخرى، فإنها تحولت إلى محورِ ارتكازٍ وفاعلٍ إقليمي ودولي تستند إليه تلك الدول وغيرها من أجل المساهمة في حل الأزمات فيها وإعادة الاستقرار إليها. وكان هذا عاملاً رئيسيًا في التحولات التي أصابت سياستها الخارجية، وخاصة السعودية والإمارات. 2. عالمنا يتغير بشكلٍ سريعٍ ونوعي غيرِ منتظَم وعلى شكل صدماتٍ تبدو وكأنها عصية على التفكيكِ والتحليلِ والفهم، وبالتالي زيادة صعوبة التنبؤ بالتغيرات والأحداث وتطوراتها. وقد خَلقتْ التحولات والصدمات الاستراتيجية والفضاء المعلوماتي تحديًا جديدًا في فهم القوة، وبالتالي في فهم عملية بنائها. ويقتضي ذلك معرفة الأفهام المختلفة للقوة؛ فكل دولة أو منظومة لها فهم خاص ينسجم مع حاجاتها وأولوياتها التنموية، ويخدم بناء مجتمع ودولة قوية استنادًا إلى هذا الفهم. وعلى ضوء ما تَقدَّم، فإنَّنا نرى أنَّ هناك حاجة مُلحة لإعادة إنتاج منظومة علاقات دولية جديدة. 3. اليوم تبدو إسرائيل آمنة استراتيجيًا ويبدو أن ثمة تراجعًا في المكانة الإقليمية لتركيا لأسباب داخلية وخارجية، ويبدو المشروع الجيوسياسي الإيراني الهادف إلى التمدد والهيمنة على حساب دول المنطقة في أعلى درجات وضوحه، وانكشاف زيف «الأخوّة الإسلامية» التي تدّعيها إيران وفشل «دبلوماسية الابتسامات الروحانية - الظريفية». السؤال الكبير: هل هناك إمكانية للبحث عن فرص استراتيجية من داخل هذه التحديات والتحولات؟ والجواب نعم، فهذه التحديات والمهددات، على سوئها، تحمل معها مكتسباتها وفرصها الثمينة والاستراتيجية؛ ويظهر ذلك في ضرورة الاشتغال على تطوير البدائل الاستراتيجية التالية: أولاً: التحرك الخليجي بلا اصطفاف خلف قوة كبرى: ففي السنوات الأخيرة، خاصة مع وضوح الأبعاد الجيوسياسية الخطيرة للمشروع الإيراني، وتهديده للأمن القومي الخليجي والعربي، تتصرف الكثير من دول الخليج العربية، وعلى رأسها السعودية ودولة الإمارات، على نحو مستقل نسبيًا، بشكل متزايد، عن رغبات واشنطن؛ نظرًا إلى اعتقاد هذه الدول أنه لا بد من بذل المزيد من الجهود الذاتية لمواجهة جملة أخطار على رأسها مشروع الهيمنة الإيراني، ومواجهة مشاريع الإسلام السياسي والحركات الدينية المتطرفة والميليشيات، التي تقوم بتسييس الدين وتقسيم النسيج الاجتماعي وتصعيد نزعات العنف، وتفكيك الدول والمؤسسات عبر ضرب الاستقرار والسلم الأهلي، واستنزاف الحكومات من خلال توجيه مواردها وطاقاتها نحو الأبعاد الأمنية، وحروب الوكالة والحروب غير المتماثلة، وبالتالي تقليص الموارد والطاقات المخصصة لمشاريع التنمية وتطوير الاقتصاد والتعليم والصحة ومكافحة الفقر والبطالة. وقد شهدت واشنطن بالفعل تحولات في السياسة الخارجية لدول الخليج في اليمن ومصر والبحرين، وهي المرة الأولى التي يتم فيها التعاون بين دول خليجية، من دون الحاجة إلى الاصطفاف خلف قوة كبرى، كما كان الحال في حرب تحرير الكويت قبل نحو ربع قرن. هذا تحوّل أساسي في العلاقة الأميركية - الخليجية تحت وطأة تراجع الحضور الأميركي في المنطقة، وتبدّل موازين القوى الإقليمية، والتقارب الأميركي مع إيران، وتمادي الأخيرة في تدخلاتها في الشؤون الخليجية والعربية. وهذا التحوّل، رغم أكلافه على الدول الخليجية، فإنه منحها فرصة استراتيجية مهمة للعمل على بناء سياسات أمنية ودفاعية مستقلة نسبيًا، ومن المهم أن تُوضع هذه السياسات في إطار رؤية متماسكة وشاملة؛ لمنع الفوضى الإقليمية، والدفاع عن حدود تلك الدول ومصالحها العليا، وتطوير مبدأ الردع، وهو ما لن يتبلور إلا بالاهتمام بتطوير الصناعة العسكرية الخليجية، ورفع قدرات ومهارات المؤسسات العسكرية والأمنية في دول الخليج، وتعضيد مبدأ الأمن الخليجي الجماعي والترتيبات الأمنية المشتركة. ثانيًا: تحديد لائحة الحلفاء والخصوم والأعداء والمنافسين: إن تنامي منسوب الاستقلالية في التحرك الاستراتيجي، قدّم فرصًا للسعودية والإمارات لإقامة تحالف استراتيجي بينهما هو الأقوى في تاريخ علاقتهما، وهما لذلك أعادتا ترتيب تحالفاتهما الإقليمية والدولية، وحددتا بشكل أكثر وضوحًا وبعيدًا عن المواربة والالتباس لائحة الحلفاء والخصوم والأعداء والمنافسين الإقليميين، وهو ما تبدّى في تغيير لهجتهما وسلوكهما حيال إيران وحلفائها ووكلائها في المنطقة. وهذا أعطى فرصة لبلورة عقيدة عسكرية جديدة أكثر قدرة على مواجهة التحديات والتهديدات. ولذا فإن دول «مجلس التعاون» مطالبة باستجماع أكبر ثقل إقليمي ممكن لرسم حدود الدور الإيراني في المنطقة؛ لإقامة توازن رادع يسمح بأن يكون النظام الإقليمي الجديد الجاري تشكّله وصياغته في المنطقة غير مهدد لاستقرار دول الخليج والدول العربية ومصالحها العليا. والواقع أن سقوط مشروع طهران في صنعاء سيدفعها إلى التصلب والتشدد بكل الوسائل للدفاع عن حضورها ودورها في كل من بغداد ودمشق. وما تقدّم سيكون بلا أهمية، إذا لم تتحرك دول الخليج وشركاؤها العرب وفق رؤية استراتيجية مُدركة لمدى أهمية مواجهة المشروع الإيراني ومحاربة التطرف والإرهاب وتحصين الداخل الخليجي، ولن يكون ذلك فعّالاً إذا لم يتم توحيد الجهود والاستثمار في شركاء محليين على الأرض وتوسيع شبكة الحلفاء في العراق وسوريا واليمن وعدم الاستسلام لترك الساحة اللبنانية لـ«حزب الله». ثالثًا: جرس إنذار لاستدراك الثغرات في البناء الوطني: فتغيّر الخرائط في المنطقة وانتشار خطر الجماعات الإرهابية وتشظيها وإقامة حواجز الشك والكراهية واللاثقة بين أبنائها، من شأنه تمزيق وحدة المجتمعات وزيادة أعداد الدول الفاشلة في منطقتنا، ما يستدعي تبني بدائل إقليمية ووطنية لمجابهة حالة فشل الدولة الوطنية في المنطقة واحتمالات تفكك بعضها. وينبغي أن تقوم القوى العربية الفاعلة إقليميًا بتوحيد جهودها وتعزيزها من أجل التوصل إلى تسويات للصراعات المشتعلة، بهدف الحفاظ على بقاء تلك الكيانات ووحدتها، مع ضرورة تحييد تأثير القوى الإقليمية غير العربية. كما ينطوي ذلك التهديد على فرصة لدول المنطقة لاستدراك الثغرات في بنائها الوطني وتطوير خططها الاقتصادية والاجتماعية والاستثمار في الموارد البشرية والمعرفة والأفكار. رابعًا: فرصة لتطوير نماذج العيش: فبينما تطرح الإدارة الأميركية أن سياسة الانفتاح على إيران، وإعادة إدماجها في النظامين الاقتصادي والسياسي الدوليين سيدفعانها نحو الاعتدال، فإن كثيرين لا يؤيدون هذه المقاربة، ويعتقدون أنه حتى لو صح هذا التوقع، فإنه سيتطلب وقتًا طويلاً، وذلك لأن النظام في إيران ما زال يقوم، حتى بعد الاتفاق النووي، على الربط بين الديني والسياسي، وعلى الدولة العميقة التي يمثلها «الحرس الثوري» وشركاؤه، كما أن نجاح مشروع الهيمنة الإيراني أو فشله يرتبط بمدى قدرة دول الخليج والدول العربية على فرض ضغوط سياسية على النظام الإيراني لدفعه إلى تغيير سلوكه. ولا شكّ أن تحصين الداخل الخليجي بالحوكمة وتوسيع هوامش المشاركة في صناعة القرار وتكريس المؤسسية سيجعلها أكثر قدرة على تقديم نماذج جاذبة في التنمية والسياسة والاجتماع تتفوق على بضاعة إيران في السياسة والاجتماع والاقتصاد ونمط العيش. هذه بعضُ مجالاتٍ قد تقدّم فرصًا لدول الخليج والدول العربية للبحث عن نوافذ كثيرة للتواصل مع قوى عراقية عدّة غير راضية عن سياسة إيران في العراق، وهذه الفرص لن تتحقق إلا بتغيير النظرة الخليجية والعربية إلى الشيعة العراقيين، وعدم حصرهم في التعريف الطائفي أو حشرهم وكأنهم جميعًا في «صف إيران»، وهذا التغيير يتطلب جهدًا دبلوماسيا وانخراطًا اقتصاديا وثقافيًا وإعلاميًا أكبر مع الشيعة والأكراد وغيرهما، إلى جانب التواصل مع القوى الوطنية السنية، فضلاً عن تطوير سياسات الإدماج والمواطنة في الداخل الخليجي.