كلما قرأت عن قصص الحب العذري الطاهر التي شغلت كتب الأدب والتاريخ العربي طوال قرون مضت، شككت أنها من بنات أفكار المؤرخين وكذبهم وافترائهم على «العربان». تراودني تلك الشكوك لأن معظم القصص نشأت في واحات وقرى وحواضر الجزيرة العربية -السعودية- اليوم، أفتش عنها، فلا أجدها في كثير من العيون والقلوب والأنفس، ولا حتى في أدبياتنا من شعر ورواية ومقالات. كيف ولد قيس وليلى، عنترة وعبلة، كثير وعزة، في تلك الصحاري هائمين على «قلوبهم» المفطورة متولهين على أحبتهم وديارهم. هل يعقل أن أولئك الشعراء والفرسان المحبين، يكون من أحفادهم أمثال هؤلاء الدرباوية والمفحطين والمفجرين والغلاة والمستشرفين وكارهي الفن والحياة والطرب والموسيقى. هل يعقل أن قيسا ورفقاءه عاشوا في نفس الأرض التي نعيش عليها، وتجولوا في الدروب التي نخطو بها، ومع ذلك أمطروا الدنيا شعرا ورجزا وموسيقى وفروسية ورجولة ومحبة ومكارم أخلاق. كانت قلوبهم خضراء، وديارهم صحارى قاحلة، بينما تصحرت حياتنا ونضبت أنفسنا. نعيش زمنا استعر فيه جفاف المشاعر والسلبية والتشفي والغلو والإحباط، قسا علينا وعلى مجتمعنا، وحول معظمنا إلى مجرد كائنات صماء، «تقضي بقية أيام حياتها»، تنتج الصدام وتفتش في الصدور وتغتال القلوب. تمر السنين تلو السنين، تكاد لا تسمع مقطعا موسيقيا عابرا يخرج من نافذة ما، ربما لن تصادف طوال حياتك شابا يافعا مقبلا على الحياة يرسم لوحة فنية في حديقة أو على سفح واد، كما لن تجد نحاتا يقف متفاخرا أمام منحوتته في ميدان عام، هل سمعتم عن شاعرة أنشدت وأطربت، كما أنشدت الخنساء، ولم تتهم في عرضها وعقلها وأهلها. أين قصص الفرح والحب التي يتناقل الناس أخبارها، بالرغم من وجود كل وسائل التواصل الحديثة، إلا أننا لا نقرأ فيها قصيدة عشق باذخة، ولا خواطر منثورة ناضحة بالحياة. فقط «حكوكيون» حولوا حياتنا لنضال سخيف، ومعارك ضارية ضد الغبار وفواتير المياه وتراب الأراضي وبرامج العربية، أو محرضين على الموت كارهين للحياة، يقضون جل وقتهم في التحذير من البهجة والضحك والحب والحبور. قبل أسابيع نشرت إحدى الصحف الكويتية خبرا صغيرا عن شاب نثر تحت قدميه الورد في انتظار خطيبته القادمة من الخارج، وفي السعودية بثت لقطات لشاب احتفل بتخرج زوجته أمام كليتها، لم تصدق الفتاة ما رأته وهي خارجة من الباب فأسرعت إليه واحتضنته، ورغم تباين ردود الفعل، إلا أن المحتفين كانوا قلة، ربما لأن المؤيدين يخشون سلطة الكراهية. هي قصص صغيرة في حجمها، لكنها تعني الحياة بكل ما فيها من مشاعر ومبادرات صادقة، هي أحق أن نتقرب بها لقلوبنا، ونصفق لها، بدلا من الانخراط في نشر الإحباط والتعاسة. رهط الكراهية يحتفون بكل قصص التراث، لكنهم لا يحتفون بقصيدة كعب بن زهير في حضرة الرسول «الأعظم»، ولا إنشاد الخنساء للنبي، ولا رقص الأحباش في مسجده، يمرون عليها سراعا خشية أن يتبعها الناس في حياتهم. لنقرأ سويا مطلع قصيدة الصحابي كعب بن زهير العظيمة، ونتفكر.. بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مَكْبولُ لقد أنشدها الشاعر «كعب» في مسجد النبي وبين أصحابه، دون أن ينكر أو يحتسب عليه أحد، أو يخشى ملامة، إنه فقه التسامح الذي فقدناه.