المرأة السعودية كانت وستظل دائماً هي تلك التي تجاوزت بإصرارها وإرادتها كافة العقبات التي حاول المجتمع من قديم أن يضعها أمامها.. امرأة كان لحضورها المحلي وقع القوة، ولحضورها العالمي وقع المفاجأة.. استطاعت أن تستفيد من كل نافذة شرعت لها، ومن كل باب فتحه أمامها ولاة الأمر واحداً بعد واحد.. قالت بكل الطرق وبكافة الوسائل هذه أنا؛ المرأة التي أعطيت خمسة فأنتجت عشرة، أثبت جدارتي في كل موقع وأقدم دليل وطنيتي في كل محفل.. ابنة هذا البلد المعطاء ابنة المملكة العربية السعودية التي اعتزت ببلادها فاعتزت بها البلاد وكرمها العباد وتلقى أنباء صعودها القاصي والداني بتقدير وإعجاب كبيرين.. السفيرة الحقيقية والمتحدثة الرسمية والبرهان المعجز على أن أقل من مئة عام في بلاد تتمتع بالحصافة والثقة والإرادة يمكن أن تغير الظروف وتقلب الموازين وتحول المرأة التي كانت كائناً مستضعفاً مغيباً إلى كيان ذي حضور وقوة يتحلى بالعلم ويترقى في العمل مع احتفاظه بعراقة الجذور وصلابة النشأة. أخاف اندثار النقوش بموت كبيرات السن اللاتي يتقنّ فنونه امرأة مختلفة، إبداعها روح من الوطن، وإنجازها يعبر عن قصة عشق فريدة لفنون التراث القديمة، إنها المدربة فاطمة الألمعي التي افتتحت مؤخراً متحفها الصغير لفنون النقش داخل منزلها والمعروف محلياً في عسير باسم «فن القط»، ويضم هذا المتحف الفريد قرابة 400 قطعة فنية تتنوع بين الجدران والأواني الفخارية والكراسي «التختات» واللوحات والصناديق وتحفيات وفنون القط العسيري الذي يختلف باختلاف بيئات المنطقة سواء في دقته أو مساحته اللونية أو دلالات مفرداته. 13 فنانة شاركن بجدارية «القط العسيري» لمبنى الأمم المتحدة في نيويورك «متحف فاطمة» كما أسمته الألمعي نسبة إلى الفاطمات أي كل النساء، أرادت من افتتاحه تأصيل الفنون التراثية وإحياءها من جديد ليكون لهذه الفنون مستقبل مزهر وصمود قوي في زمن العولمة والتطور التكنولوجي الذي طال الملابس والديكورات، فقد ضم متحف فاطمة قطعا أثرية من فن القط منقوشة بأنامل ذهبية لمتعهدة القط العسيرية «الألمعي»، ولم يقتصر التطريز على الشاكلة العسيرية فقط، بل اشتمل المتحف على الثوب المكمم من نجران، الميل من جازان، المجيب والمجنب والنطع والمزر وحلة العروس وغيرها العديد من المنقوشات التراثية المذهلة. متحف «القط العسيري» إعادة بث روح التراث وعبق الماضي في الجيل الجديد وتعزو فاطمة الألمعي تمتع المرأة العسيرية بهذه الروح الفنية العالية إلى افتقار الطبيعة حولهن للألوان والتنوع؛ حيث لجأت المرأة عبر التاريخ إلى إضفاء روح من البهجة على ما حولها عبر تلوين البيوت داخلياً وخارجيًا ليعوّضن بعضاً مما حُرمن منه في حضن الطبيعة. وهذا التعويض يأخذ أهميته عندما نعلم أن التلوين يتم بواسطة نساء لم يطّلعن يوماً على مجريات الفنون الحديثة أو القديمة. المرأة العسيرية ابتكرت «فن القط» لكسر حدة البيئة من حولها فالانسجام اللوني يتمثل أحياناً بالتدرج من الفاتح إلى الغامق، ومن الحامي إلى البارد، وأحياناً كان الإيجاز يتم بلون أو لونين للشبابيك والأبواب مع اللون الأساسي الترابي للحائط. انسجام يدل على سلامة إحساسهن. جدارية الأمم المتحدة فاطمة الألمعي مدربة معتمدة من مركز الفكر الناجح ومشرفة على العديد من الدورات التدريبية للنقش العسيري، وقامت حتى الآن بتدريب أكثر من 150 متدربة في عسير بالتعاون مع جمعية الثقافة والفنون وجمعية آباء.. وافتتحت ورشة بمنزلها. تفخر الألمعي، بأن فنانات النقش العسيري (وبعضهن ممن تدربن على يدها) كانت لهن مشاركة في نيويورك بمشروع «بيوت أمهاتنا» لإحياء وتأصيل القط العسيري عبر جدارية بمبنى الأمم المتحدة بطول ١٨ متراً أبهرت الغربيين بروعة ألوانها ودقة نقوشها. المشروع كان فكرة الفنان د. أحمد ماطر وزوجته الفنانة أروى النعمي والسيد ستيفن ألكسندر المهتم بالفنون العربية، وتحت إشراف وإعداد الأديب علي مغاوي المهتم بثقافة التراث، وتنفيذ الكثير من فنانات النقش العسيري وعددهن 13 فنانة، حيث احتفت بهن مدينة نيويورك سادسة المدن الكبرى في العالم وهن يقضين ما يزيد على سبع ساعات يومياً ينقشن بأيديهن وينمقن التفاصيل الدقيقة للجدارية. وقدمت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، دعمها للمشروع من خلال برنامج الحرف الوطنية «بارع» بقيادة المشرف على البرنامج د. جاسر الحربش ومدير عام الهيئة بمنطقة عسير م. محمد العمرة. متحف فاطمة أما ما دفع فاطمة الألمعي إلى إنشاء متحفها الخاص فكونها سيدة تربت وسط التراث، إذ يُعرف عن المرأة العسيرية تمسكها بالزي التراثي الشعبي ومنديلها الأصفر، حتى كبار القبائل العسيرية تتزين مجالسهم وبيوتهم بنقوش القط المختلفة في جماليتها وأناقتها، إضافة إلى ذلك انحسار هذا الفن تدريجيا وغيابه عن أزياء الجيل الجديد، فأرادت من خلف هذا المشروع إعادة بث روح التراث وعبق الماضي في الجيل الجديد لزرع حبه في الصدور والحفاظ عليه من الاندثار. ووصفت الألمعي فكرة المشروع بأنها حلم الحفاظ على تراث المنطقة من الاندثار مبينة أن هذا الفن يعتبر عاكس حضارة وتراث منطقة عسير، مطالبة بالحفاظ عليه عبر دورات تدريبية للفتيات والفنانات لتعلم أسراره. ويشمل «متحف فاطمة» ثلاثة أركان رئيسية: الأول منها مخصص للقط في رجال ألمع، والثاني للقط في عسير السراة وبلاد قحطان، أما الركن الثالث فهو خاص بالملابس التقليدية في نجران وجازان وعسير، وتمثِّل الأثواب المعروضة ملابس الفلاحة والرعي، إضافة إلى المصوغات والحلي النسائية المشغولة من الفضة وإلى ذلك، يضم المتحف ركناً لبعض المؤلفات عن تراث عسير. وتقول الألمعي إنه نواة لمعرض، تطمح إلى أن يكون أكبر بكثير ويضم تفاصيل زينة المرأة في كل مناطق المملكة. وحول سبب إنشائها للمتحف، قالت فاطمة الألمعي: «سبب ارتباطي بفن القط يعود إلى معلمتي رائدة فن القط العسيري فاطمة أبو قحاص -رحمة الله عليها-، التي كانت قد افتتحت متحفها الخاص بهذا الفن حيث لازمتها لأتعلم منها كل ما أمكن من النقش حتى توفيت قبل سنوات، الأمر الذي نبهني إلى ضرورة افتتاح متحفي الخاص والسير على خطى معلمتي التي غرست فيّ حب التراث القديم وشجعتني على إحيائه حتى لا يندثر، فكان التخطيط للمشروع على قدم وساق مع زوجي الكاتب والأديب علي مغاوي المهتم بالأمور التراثية والذي أضاف إلى المتحف لمسة حضارية حديثة من خلال تزويد المتحف بشاشة عرض مرئي تُمكن الزائرين من الاطلاع على تاريخ القط في عسير وملابس المرأة التقليدية في المنطقة وتاريخها وشراكة المرأة للرجل فيها، فكان المتحف تحفة فنية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. خبيرة فن القط تقول فاطمة الألمعي: «فن القط عبارة عن خطوط ونقوش وتشكيلات جمالية تقوم بعملها نساء متخصصات في هذا المجال، وهذا الفن الشعبي لم تتعلمه الألمعيات في مدارس فنية أو معاهد متخصصة، ولكنه وحي للواقع، فكل لون كان يمثل إحساساً معيناً، وكل شكل كان يرمز إلى شيء حل بالنفس واستقر في الأعماق». وفيما يتعلق بالقط العسيري، قالت «إنه شاملاً من ظهران ونهاية بالمجاردة، بداية من محافظة بيشة الذي لم نجد شيئا منه وقالوا إنه اندثر، وحتى الجهة الشمالية الغربية وهي محافظة محايل عسير، لكنها تشترك في بعض العوامل التي تمثل القط، خاصة المثلثات والحظية والختام، وتختلف في المسميات فقط؛ وعلى سبيل المثال فإن قبائل قحطان تختلف عن نظيرتها في عسير (ابتداء من أبها وإلى رجال ألمع.. الجبل والوادي) بأن عسير أكثر دقة، وقحطان أوسع في الألوان». وعن مكونات هذا الفن، قالت إنه يتكون من مجموعة مسميات للنقوش، ومنها الختمة والبترة والحظية والبنسلة والعمري والسكروني وارياش وبنات، حيث إن كل لون من هذه الألوان يضم خاصية لونية وشكلية معينة. وأضافت أن النقش الألمعي يستمد خاماته من الطبيعة، ويستخدم في تزيين المنازل والجدران والأدوات المنزلية، وقالت إنها أخذت تشكل هذه النقوش على الأواني المنزلية والتحفيات لتعطيها منظرا متميزا، مؤكدة أن هذا الفن لا يستخدم الأشكال من ذوات الأرواح. وتابعت: إن هذا الفن يمثل هوية المنطقة، وإن حبها لهذا النقش جعلها تصر على تعلمه، مشيرة إلى أن دعم زوجها الكاتب علي مغاوي جعلها تزداد إصرارا على تعلم هذا النقش الذي تحب أن تورثه لبناتها، وحذرت من اندثار هذه النقوش بموت السيدات كبيرات السن اللاتي يتقن هذا الفن، مشيرة إلى أن عدد النساء اللائي يقمن بالتدريب على هذا الفن في رجال ألمع قليل، وذكرت منهن زهرة فايع وشريفة محمد مهدي وفوزية بارزيق. وأوضحت الألمعي أنها تستخدم حالياً في نقوشها أقدم أنواع البويات، وأن العمل يستغرق من أسبوع إلى نصف شهر، تبعا لطبيعة النقش وحجم اللوحة المنقوشة، وقد استخدمت المرأة الألمعية في عمل هذه النقوش الألوان التي تستطيع تكوينها من خلال العناصر الموجودة في بيئتها فالأسود من الألوان الرئيسة التي لا غنى لها عنها، وطريقة استخراجه والاستفادة منه تقوم على جمع الفحم ثم طحنه وإضافة الصمغ عليه حتى يصبح أكثر لمعاناً وجاهزاً للدهن. واللون الأحمر أو ما يطلق عليه - الحسن - وطريقة الحصول على هذا اللون هو بجمع عدد من الأحجار حمراء اللون المختلفة المناسيب يضاف عليها شيء من المر والأرز المحمص ويطحن في مطاحن يدوية حتى تصبح أكثر دقة وجاهزية للاستعمال. والألوان الأصفر والأزرق والأخضر كانت تأتي عن طريق عدد من التجار الذين يجلبونها إلى بلدة رجال ألمع، ثم تؤخذ هذه الألوان التي تختلف في تكوينها ويضاف إليها مادة الصمغ الذي هو من المواد الأساسية في النقش الألمعي، والقضاض إحدى المواد الرئيسة في دهن البيت الألمعي، وكان يستخرج من جبال اشتهرت بوجوده في ثناياها فبعد جلبه منها ينقى ويطحن ثم يخمر في أدوات فخارية سابقاً كالحجل ثم يصفى الماء وبعد ذلك تطحن الرواسب المتبقية، وتحمى في درجة حرارة معينة حتى تزداد تماسكاً، ومن ثم تزين به الأسوار المعرضة لعوامل التعرية. جميلة ماطر: الألمعي ومن معها أعدن لـ«القط» قيمته تقول الفنانة جميلة ماطر، إن فاطمة الألمعي ووالدتها ومجموعة كبيرة من نساء عسير اهتممن بهذا التراث وساهمن في تطويره، واستطعن إيصاله للعالمية، وتعتبر فاطمة من المبدعات بعسير المحافظات على التراث من خلال التدريب، وأيضا افتتاح متحف خاص به في منزلها، وتذكر ماطر وهي إحدى الفنانات اللاتي أشرفن على عمل جدارية الأمم المتحدة أن «ما يثير الدهشة أن هذه الجدارية تم تنفيذها بأنامل نسائية مبدعة، متفقات في التخطيط والتنفيذ وفي كل تفاصيل هذه الجدارية التي تحمل تعبيراً عن فكرهن وإحساسهن وذائقتهن الفنية في اختيار الألوان وتنسيق تلك الأشكال التجريدية، وبشكل نظهر من خلاله دور المرأة في إثراء الفن والتراث في منطقة عسير». مشيرة إلى أن فن القط -أو النقش- يملأ شوارع ومدينة أبها «فما أن تطأ قدم الزائر إليها حتى يجده في المطار، ويتكرر في مواطن كثيرة من المدينة، ولكنه تشوه وأصبح مزعجاً بصرياً بسبب تدخل الذوق الرجالي فيه، مما سمح للعمالة الوافدة بأن تقوم بالنقش، الأمر الذي أزال إحساس وجمال تلك الخطوط المتداخلة، وهمش دور المرأة الحقيقي في إضافة فكرها وإحساسها لهذا الفن». مضيفة أنها تطمح لإنشاء أكاديمية متخصصة لتعليم فن النقش أو القط وإظهار جمالياته وتفاصيله، وإعادة عمل المرأة في هذا المجال وتعزيز مفاهيمه وإيصاله للعالمية. «القط» ومدلولاته اللفظية والجمالية فن القط أو النقش يقسم إلى أربعة أنواع، طبقاً للمفردات المحلية الدارجة والمستخدمة؛ النوع الأول هو: الختام وعرضها في الجدار بين 30 و40 سم، تحفها الحظية دائماً وتعلوها البناة والأمشاط غالباً وتزينها الركون والمثلثة الشكل في أركان البيت، ويحتاج الجدار الطويل إلى ابتكار فني يتوسط الجدار على شكل دائري أو مربع، والختام تسمية لأشكال مربعة، وتنقش مربعات الأختام بأشكال ودلالات مختلفة تغلب عليها الأرياش والبلسنة وهي معينات تحيطها أو تتوسطها النقط الذي لا يخلو النقش منه، والخطوط الأفقية -المثالث والمخامس- ثلاثة خطوط أو خمسة متوازية ألوانها مختلفة يعلوها النقش، وقد يكتفى بها في بعض المنازل، وهي غالبة في سبحات الدرج. أما النوع الثاني: الحظية؛ وهي نقش على طول الجدار عرضه أقل بكثير من الختام، ويستخدم في مجالس النساء. فيما النوع الثالث البترة: وهي الجامعة لكل أنواع النقش، والمنقوشة بعناية فائقة، لذلك تظهر في واجهة المجالس. والنوع الرابع التقطيع العمري: خطوط رأسية متوازية ومتقاربة تمثل قاعدة ينطلق منها خيال الفنانة إلى الختام أو الحظية. واستخدمت المرأة الألمعية أدوات ومكونات موجودة في بيئتها ووجدتها بين يديها وحولتها إلى ريشة رسام حاذق في صنعته ماهر في أدائه، فقد استخدمت شعرة من ذيل الأغنام تحسنها بشكل يجعلها أشبه ما تكون بريشة الرسام. مغاوي: دعمت زوجتي للحفاظ على التراث يؤكد الكاتب والأديب والمؤرخ علي مغاوي زوج «فاطمة الألمعي»، أن زوجته تملك الحس الإبداعي الذي ورثته من البيئة التي عاشت فيها، وأيضا من والدتها ومن سيدة النقش العسيري فاطمة آل قحاص، فبيئة رجال ألمع محفزة على الإبداع والابتكار. وقال إن زوجته بدأت بداية متواضعة؛ وذلك بالنقش على جدر غرف المنزل، وبدأت بعدها بمرافقة معلمتها فاطمة آل قحاص، وتعلمت منها الإتقان بالقط وأنواعه، وبعدها انتقلت للقط على التحف والأواني، والمشاركة بها في المهرجانات والفعاليات داخل المنطقة وببقية مناطق المملكة مثل الجنادرية ومهرجانات أبها، وأيضا أصبحت تجهز الهدايا للسفارات والأجانب وزوار المنطقة، وكذلك مثلت المملكة بالأيام السعودية في الجزائر، وبعد وفاة معلمتها رأت أن توثق هذا التراث من خلال متحف، فخصصنا جزءا من منزلنا لهذا الفن، وجهزنا مرسما خاصا بها وبالفنانات اللاتي تدربهن، وهي الآن مدربة معتمدة، ودربت نحو 150 فتاة على فنون القط، وعن مساندته لها قال: «أنا من المهتمين بتتبع التراث وفن «القط» فن شيق وقد رصدته في كتاب ولم أبخل على زوجتي بأي معلومة تسهم في الحفاظ على هذا التراث». فاطمة الألمعي فاطمة الألمعي تمارس فن القط على جدارية بمنزلها القط العسيري يفتح الأبواب للفنانات للانطلاق للعالمية المتحف مزين بأشكال عدة جدارية القط العسيري في الأمم المتحدة تخطف الأبصار قط فاطمة الألمعي ركن من أركان متحف فاطمة جدارية القط العسيري في الأمم المتحدة النقش على التحف