كان قاضي مصر الحارث بن مسكين عالماً زاهداً وفقيهاً لا يخشى في الحق لومة لائم.. وكان كثير الابتعاد عن الأمراء والملوك.. عمّر كثيرا وظل على عهده وصلاحه حتى لقي ربه.. يقول عنه مجد الدين بن الأثير في كتابه جامع الأصول في أحاديث الرسول والزركلي في الأعلام: هو أبو عمرو الحارث بن مِسْكين بن محمد بن يوسف المصري.. وسمع سفيان بن عُيَيْنةَ ، وعبد الله بن وهب، وعبد الرحمن بن القاسم.. روى عنه عدد كبير من المصريين، وأبو عبدالرحمن النَّسائي، وعبدالله بن أحمد بن حنبل، وكان فقيهاً على مذهب مالك بن أنس، وكان ثقة في الحديث ثبتا، حمله المأمون إلى بغداد ليقول بخلق القرآن، فلم يجب، فسجن في محنة القرآن فلما ولي المتوكل أطلقه، فعاد إلى مصر، فولي فيها القضاء سنة 237ه.. وقد أمر بحفر خليج الإسكندرية.. ومنع من النداء على الجنائز ومن قراءة القرآن بالألحان. واستعفى من القضاء سنة 245ه فأعفي، وكان كثير الابتعاد عن الأمراء والملوك. شهادات وقد تكلم عنه الإمام الذهبي في كتابه القيم سير أعلام النبلاء: فقال عنه: الإمام، العلامة، الفقيه، المحدث، الثبت، قاضي القضاة بمصر، أبو عمرو، مولى زبان ابن الأمير عبدالعزيز بن مروان، الأموي، المصري.ولد في سنة أربع وخمسين ومئة.. وطلب العلم على كبر. وسجل الإمام الذهبي شهادة العلماء وثناءهم على الحارث بن مسكين فقال: سئل عنه أحمد بن حنبل فأثنى عليه، وقال فيه قولا جميلاً. وقال يحيى بن معين: لا بأس به، وقال النسائي: ثقة مأمون.. وقال أبو بكر الخطيب: كان فقيها، ثقة، ثبتا، حمله المأمون إلى بغداد في المحنة، وسجنه، فلم يجب وكان - مع تقدمه في العلم والزهد - قوالا بالحق، من قضاة العدل - رحمه الله تعالى وقال بحر بن نصر الخولاني: عرفنا الحارث بن مسكين زاهداً ورعاً صدوقاً حتى مات. وقال ابن فرحون في طبقات المالكية في ترجمة الحارث بن مسكين: أحد أئمة المالكية كان عدلا في قضائه محمود السيرة. وقال محمد بن وضاح: ولي القضاء في الأرض أربعة في وقت واحد: فانتشر العدل بهم في آفاقها.. وهم دحيم بن اليتيم بالشأم، والحارث بن مسكين بمصر، وسحنون بن سعيد بالقيروان، وأبو خالد سعيد بن سليمان بقرطبة. في مواجهة المأمون كان ابن مسكين رحمه الله لا يخشى في الله لومة لائم مما عرضه للحبس والسجن ومن ذلك ما ذكره الذهبي في كتابيه سير أعلام النبلاء و تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام قال: قال يوسف بن يزيد القراطيسي: قدم المأمون مصر، وبها من يتظلم من عامليه: إبراهيم بن تميم، وأحمد بن أسباط..فجلس الفضل بن مروان الوزير في الجامع، واجتمع الأعيان، وأحضر الحارث بن مسكين ليولى القضاء، فبينا الفضل يكلمه إذ قال له متظلم: سله - أصلحك الله - عن ابن تميم وابن أسباط.. فقال: ليس لذا حضر..قال: أصلحك الله سله.. قال: ما تقول فيهما؟ فقال: ظالمين غاشمين.. قال: فاضطرب المسجد، فقام الفضل، فأعلم المأمون، وقال: خفت على نفسي من ثورة الناس مع الحارث.. فطلب الحارث، وقال: ما تقول في هذين؟ قال: ظالمين غاشمين.. قال: هل ظلماك بشيء؟ قال: لا.. قال: فعاملتهما؟ قال: لا.. قال: فكيف تشهد عليهما؟ قال: كما شهدت أنك أمير المؤمنين، ولم أرك إلا الساعة.. قال: أخرج من هذه البلاد، وبع قليلك وكثيرك. وحبسه في خيمة، ثم انحدر إلى البشرود (بلد أراد المأمون فتحها) وأخذه معه، فلما فتح البشرود طلب الحارث، وسأله عن المسألة التي سأله عنها بمصر، فرد الجواب بعينه..قال: فما تقول في خروجنا لقتالهم أي سكان البشرود ؟ فقال الحارث: أخبرني ابن القاسم عن مالك أن الرشيد كتب إليه عن دهلك يسأله عن قتالهم فقال: إن كانوا خرجوا عن ظلم من السلطان فلا يحل قتالهم، وإن كانوا إنما شقوا العصا فقتالهم حلال. وروى داود بن أبي صالح الحراني عن أبيه قال لما أحضر الحارث لمجلس المأمون جعل المأمون يقول: يا ساعي يرددها.. قال: يا أمير المؤمنين إن أذنت لي في الكلام تكلمت.. قال: تكلم. قال: والله ما أنا بساع، ولكني أحضرت فسمعت وأطعت حين دعيت، ثم سئلت عن أمر فاستعفيت، فلم أعف ثلاثاً، فكان الحق آثر عندي من غيره.. فقال المأمون: هذا رجل أراد أن يرفع له علم ببلده، خذه إليك. قاضي مصر قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: قال لي ابن أبي دواد:يا أبا عبد الله، لقد قام حارثكم لله مقام الأنبياء. وكان ابن أبي دواد إذا ذكره عظمه جداً. ومن المسائل التي تعرض لها وقضي فيها ابن مسكين ما أورده الذهبي عن ابن قديد قال: أتاه يعني الحارث كتاب توليه القضاء وهو بالإسكندرية، فامتنع، فلم يزل به إخوانه حتى قبل، فقدم مصر فجلس للحكم، وأخرج أصحاب أبي حنيفة والشافعي من المسجد، وأمر بنزع حصرهم من العمد، وقطع عامة المؤذنين من الأذان، وأصلح سقف المسجد، وبنى السقاية، ولاعن بين رجل وامرأته، ومنع من النداء على الجنائز، وضرب الحد في سب عائشة أم المؤمنين، وقتل ساحرين. عن الحسن بن عبد العزيز الجروي: أن رجلاً كان مسرفاً على نفسه، فمات، فرئي في النوم فقال: إن الله غفر لي بحضور الحارث بن مسكين جنازتي، وإنه استشفع لي فشفع في. ومما يؤثر عن الحارث بن مسكين أنه خرج مرة من الإسكندرية فنزل منزلاً فقال: الحمد لله استرحنا من صحبة الملوك، نمد أرجلنا إذا شئنا، ونتكئ إذا شئنا، ونعمل ما أردنا.