< منذ بدء الخليقة وللإنسان عقل وفكر لا يهدأ، يمتلك غريزة الفضول والغموض والبحث الدائم. دفع ثمن فاتورته غالية جداً، قد يقترب بعضنا من الحقيقة وقد يبتعد البعض، وهناك من لا يزال نائماً منذ الأزل. غريزة الإنسان جعلته يبحث عن قوت يومه يسد الجوع والحاجة، غريزته جعلته يبحث عن الأمان أو الدفاع عنها بالقوة واللين، غريزته جعلته يغوص في ذاته التي تطلب دائماً التقدير والإنجاز، تبحث عن مكان تقف فيه بقوة، لذا من تلك العصور السحيقة وبحث الإنسان لم يتوقف. المراحل في حياة الإنسان متنوعة ومختلفة، حتى وصلت إلى مرحلة التكنولوجيا عصر الآلة التي فقد فيها الإنسان إنسانيته. الآن، هناك أصوات تدعو إلى العودة إلى الروحانيات، والبحث في أعماق هذا الإنسان من جديد، بسبب الفراغ النفسي الذي يعاني منه إنسان اليوم. كل ما مرّ به الإنسان يعتبر نمواً وتطوراً وتقدماً في العنصر البشري، لكنه للأسف فقط الأساس الذي يتكئ عليه، وهو عنصر الإنسانية والسلام الداخلي والخارجي، والعلاقات الحميمية الإنسانية، وتكاثرت الفردية بصورة مخيفة، فأصبح الإنسان توأمه جهازه اللوحي، فاختفى الصديق والقريب، مما شكل فراغاً نفسياً وروحياً عميقاً جداً، وهذا ما جعل اليوم غالبية الأفراد يتجهون إلى الأسئلة العميقة والحساسة، من أنا؟ وما هو دوري في هذه الحياة؟ من دون ذلك سيعيش الجمود والتبلد المعنوي، بل ستغيب العواطف الإنسانية، وتتحول إلى أرقام وفكر آلي، وهنا الخطورة في الإقدام على منصات الحياة من دون أمان داخلي، ومن دون روابط إنسانية، مما يجعله يحارب بعضه بعضاً، فتنبت العنصرية والفكر المتحجر بكل أحزابه المتنوعة، فيتم تجاهل الجوهر الحقيقي (إنسانيته)، لذا ستتوالى الحروب والمجاعات والتناقض والتناقص في كل شيء، لكن بحدية أكثر وبشكل أعنف، لأنه لم يستغل هذا التقدم الفكري والمادي بشكله الصحيح، فيبدأ الأفراد في صنع مصانعهم الخطرة الكل على حسب هواه، ملغياً جميع الأطراف الأخرى. الآن، علت الأصوات في جميع أنحاء العالم تطالب بالتركيز على الجانب الروحي، وهو الاتصال مع الله حقيقة، لكن كيف يكون؟ لا بد أن يكون بصورته الحقيقية، نظافة القلب والجوهر والنوايا الحسنة، وتقليص دور الأنا والغرور والكبر في غزو الآخرين فكرياً، معنوياً، مادياً. كثير من يدعون الآن للوسطية والاعتدال وتقبل كل المختلفين، وفتح نافذة جديدة محبة ومتسامحة، تجمع كل الأطياف والأحزاب والأديان والآراء المختلفة مع بعضها واحترامها من جديد، وكذلك فتح بوابة العبور لكل ثقافات الأرض بإحياء المبادئ الأساسية الإنسانية من محبة وسلام واحترام وعدل. نشاهد الآن كمية صراع فكري وروحي وديني وعقلي منتشراً حول العالم، أفراداً يبحثون عن مخرج من أزمتهم التي بدأوا يدركون خطورتها على العنصر البشري، لكي لا يعودوا كما كانوا في عصر الجهل والتحجّر والتصحر، ثم يقعوا في الانفصال ومن ثم - لا قدر الله - في الانفصام. لذا الكل يحاول استيعاب هذه المرحلة، والبحث عن التخلص من سلبيتها، والتمسك بالمبادئ الإنسانية أو العودة إليها إن صحّ التعبير، لكنه مازال جهداً متواضعاً وجهود أفراد أو جماعات صغيرة، وإن كانت تحتاج سياسات ذات سيادة تبث من جديد روح الإنسانية والعدل والمعرفة الحقيقية المدركة لدورها الأساسي على هذه الأرض. الصراع يأتي عندما لا تتقارب الأشياء مع بعضها أو لا تكمل بعضها أو عندما تحارب بعضها. لا بد أن يكون هذا التقدم والتطور غنياً في جوهره وداخله، يعمل على تقريب الاتصال والتواصل بين الأفراد، يساعد في احترام الثقافات المختلفة والتعرف عليها والاستفادة من خبرتها وتجاربها، وألا تسيطر العقول الآلية على فطرة الإنسان وطبيعته، ونستفيد من هذا التقدم مع الاحتفاظ بإنسانيتنا. الإنسان لديه جوهران داخلي وخارجي، الداخل هو التصالح والسلام مع ذاته ومفاهيمه وقناعاته وتقديرها واحترامها، لأنه من دون ذلك لن يستطيع أن يحترم الآخر في الخارج، التوازن النفسي مهم جداً، لأنه سيعكس ذلك على جوهره الخارج من علاقات وعمل وأصدقاء ونظرته إلى الحياة، فلن ينفع التقدم والتطور في شكله الخارجي إذا فقد الإنسان فطرته ومعدنه، لأنه حينها سيصبح آلة مبرمجة، يفتقد معها الوعي والنضج الروحي والنفسي والعاطفي. Haifasafouq@