الحرب لعنة لم تتعلم البشرية كيف تتفاداها على رغم محاولات أجيال من المصلحين والفلاسفة. والحرب الحديثة لعنة مضاعفة، إذ إنها منحت المتحاربين قوة تدميرية هائلة ولكنها بالمقابل لم تمنحهم نبلاً في التفكير أو إنسانية معادلة لهذه القوة. لذا أصبحت نتائجها كارثية بكل ما للكلمة من معنى: ضحايا كثر، جرحى ومشوهون بأعداد كبيرة، ومشردون ولاجئون بالملايين. هذه هي حال أهل البلاد المنكوبة بحروب أهلية -عولمية في الآن نفسه في سورية والعراق وأفغانستان وبعض الدول الأفريقية الصحراوية، الذين يعانون بطش جلاديهم المحليين ودمويتهم ولا مبالاة، وأحياناً مساهمة الأطراف الدولية. القتال مستعر، ويبدو أنه قد فقد أي علاقة بهدف أو نتيجة. الدمار يتزايد وينتشر، والحرب تلفظ الناس خارج بيوتهم لكي يبحثوا عن ملجأ من الموت القادم إليهم من كل صوب. من هنا بدأت ملحمة اللجوء إلى أوروبا التي بلغت أوجها الصيف الماضي بوصول أكثر من مليون لاجئ إلى ضفاف القارة الجنوبية وانطلاقهم عبر مسارات طويلة وشاقة سعياً نحو البلاد التي حلموا بها في الشمال. ومن هنا أيضاً ظهر التناقض بين القيم الإنسانية التي تنادي بها أوروبا والسياسة الواقعية الباردة التي تتبعها حكوماتها، وبان وجه العنصرية البشع ثانية لكي يَرفض هؤلاء اللاجئين بحجج مختلفة ولكي يعاملهم جميعاً ككتلة واحدة تختزل في كيانها التعصب والإرهاب والإجرام والتخلف. وظهر مقابله تحرك شعبي نبيل لمساعدة اللاجئين وإشعارهم بأن الخوف والعنف باتا خلفهم وأنهم مرحب بهم في بلاد هجرتهم الجديدة. أساس هذا التحرك هو المبدأ الإنساني الأول بأن الناس أفراد، لكل منهم حياته وشخصيته ومعتقداته واحتياجاته، وطبعاً له حقوقه وعليه مسؤولياته. معهد العالم العربي في باريس، الذي عاد للانتعاش مؤخراً تحت رئاسة جاك لانغ وزير الثقافة الفرنسي الأسبق، يساهم في هذا الجهد من خلال معرض تصوير يجمع إلى الحساسية الفنية المرهفة والمقدرة التقنية العالية التزاماً عميقاً بالقيم الإنسانية ومقدرة رائعة على إبرازها بأساليب واضحة ومباشرة وجارحة في العمق. عنوان المعرض «أنا معهم»، وهو من إنتاج فنانة باريسية، آن آ-ر، معروفة بأعمالها الملتزمة، بالتعاون مع المخرج اللبناني إيلي لماح الذي وثق النصوص وترجمها ترجمة قديرة. المعرض يعلن عن نفسه على أنه «مانيفستو فوتوغرافي للاجئين، لكنه يقدم أكثر من ذلك بكثير. في صالة مظلمة نظمت على شكل متاهة مكونة من لوحات طويلة معلقة من السقف على زوايا متعامدة تجبر المتفرج على المرور وفق ترتيبها، نشرت آن آ-ر وثائقها التصويرية والفيلمية ونصوصها المكتوبة بلغات ثلاث: الفرنسية والإنكليزية والعربية عبر ترتيب بلاد الدخول: اليونان ومقدونيا والبلقان والنمسا وألمانيا. صور حوالى أربعين لاجئاً بالحجم الطبيعي، كل منهم يواجه المشاهد مباشرة وينظر في عينيه، أحياناً مع بسمة. وتحت كل صورة كتب اسم الشخص المصور لإعطائه هويته الشخصية وعلى لوحة مجاورة وعموماً متعامدة مع لوحة الصورة كُتب نص تعريفي بكلمات اللاجئ لا أظن أن بإمكان أي قصاص أو روائي أن يقاربها في آنيتها وقوة تعبيرها وصدقها. التكامل بين الصور والنصوص عضوي تقريباً والشحنة التي يفرغانها سوية مؤثرة وقوية على كافة الأصعدة، فنياً وسياسياً وإنسانياً. يبدأ المعرض مع فيلم قصير لعبد الحكيم فهران يغني على طنبوره أغنية حب حزينة لحبيبته في سورية، مباشرة بعد نزوله من القارب الذي أقله إلى جزيرة لسبوس في اليونان. وهو يقول أننا «لا يمكن أن نترك من نحب وإلا فإننا نموت». ثم يكمل «خطيبتي بقيت في سورية، لن ترحل أبداً ولن أراها بعد الآن»، من دون أن يربط بين كلمات الأغنية وبين حاله الشخصية. تتالت بعده الصور، كل يحكي قصة متميزة، خاصة، فردية، ومؤثرة. عزت عمره ٣٦ سنة وهو من إدلب. كان مدرساً للغة الإنكليزية وهو يقول، «في ادلب الوضع كارثي. لا أحد يفهم ماذا يجري. ولا الأسباب ولا المسؤول ولا حتى الهدف من كل ما يحصل. نقتل بعضنا البعض. إن كنت أملك مسدساً أقتلك قبل أن تقتلني أنت». كمران عمره ٢٣ سنة، وهو من حلب، يقول: «في بداية الحرب كنت جندياً. أردت الهروب من الجيش ولم أستطع». ثم ينهي قصته السوريالية تقريباً بقوله: «بقي أهلي وحبيبتي في تركيا، لا نملك المال الكافي لنعبر كلنا. الآن وأنا أقترب من الحدود الألمانية أشعر بالسعادة. ولكني أشعر بالوحدة أيضاً لأني أتيت وحدي». زياد من بغداد وعمره ٢٤ سنة وصل إلى برلين بعد أن هرب من القوات الخاصة التي انضم إليها عام ٢٠١١. يقول: «كنت أحارب داعش، ولكني في النهاية شعرت بالقرف حين كنت أرى أنهم يطلقون سراح التابعين لداعش الذين قد ألقيت القبض عليهم. كان المسؤولون يتلقون رشوة بقيمة ١٠٠٠٠ دولار أميركي لإطلاق سراحهم». آدم، ذو الـ٢٢ سنة من القامشلي، استدعي للانخراط في الجيش ولكنه هرب ويحاول الوصول إلى السويد حيث له أقارب. يقول: «حبيبتي أيضاً هناك. رحلت منذ سنتين. اسمها ألماظ. منذ أربعة أشهر أرادت فسخ علاقتنا، لأنه كان من الصعب عليها تحمل عدم رؤيتي. لذا سوف أنضم إليها لنصبح معاً». خبات أيضاً من القامشلي وعمرها ٢٦ سنة، باعت بيتها وكل ما فيه لدفع تكاليف الرحلة لها ولزوجها وولديها، تحلم «بامتلاك منزل وإيجاد عمل لزوجي. قبل الحرب لم أكن أحتاج إلى أي شيء. كنت سعيدة جداً». هناء عمرها ٣٦ سنة وهي من درعا جاءت مع زوجها وأولادها الثلاثة بعد أن صار الوضع لا يطاق وهي تقول: «ألمانيا رائعة لكني أصبحت متسولة هنا. تريدونني أن أقف على قدمي من جديد؟ مستحيل. أنا أحاول ولكن أشعر بأنني مشلولة». تكمل الفكرة نفسها ميرفت من حمص التي كانت معلمة كيمياء وفيزياء والتي اختطفها عناصر من الشرطة وطلبوا فدية لإطلاق سراحها، فقررت «عند انتهاء هذا الفصل البشع» أن تحتفل بعيد ميلادها المقبل في أوروبا التي جاءتها مع زوجها وأولادها سيراً على الأقدام. ثم تعلق مستدركة: «لن يكون هناك فائز في هذه الحرب. الكل خسران. لقد خسرنا الكثير». وتمضي الصور ونصوصها تعطينا رؤية إنسانية شاملة لمشاكل الحرب والهجرة والتشرد وتحطم الأحلام واليأس والمثابرة والحزن، الحزن العميق الذي طبع نفسيات كل هؤلاء الناس الذين كانوا يحيون حيوات سعيدة، أو على الأقل قانعة ومكتفية، قبل الحرب. كلهم، كلنا، خسرنا. هم خسروا بلادهم وحيواتهم التي بنوها قبل تشردهم. ونحن، أياً كانت مواطننا وأياً كانت حيواتنا، خسرنا بعضاً من إنسانيتنا. * كاتب سوري وأستاذ الآغا خان للعمارة الإسلامية معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، M.I.T