في السبعينات كان أهم شيء لديّ أن أنتظر التاسعة من مساء السبت لكي أحمل الـ«نيويورك تايمز» إلى المنزل وأنكب على قراءتها طوال اليومين التاليين. وكان أحد الأساتذة في جامعة كاليفورنيا قد قال مرة إن «العدد اليومي من الـ(نيويورك تايمز) يحمل من المعلومات ما لم يعرفه مُعايش لشكسبير طوال عمره». الآن أصبحت أنتظر صباح الأحد حتى أقرأ تلك الجريدة.. رغم أن وزنها الثقيل قد خفّ قليلاً، فما زلت أرى فيها حملاً غير ضروري لأحد. وكلما تقدم بي العمر وتقدم الغزو الإعلامي بالعالم، أدركت أن المواطن في زمن شكسبير كان يتلقى من المعلومات المعدل الذي يصلح للبشر، أي إنه كان يقرأ حقًا ما يقدم إليه. أما مواطن هذا العصر، فالمعلومات تتساقط عليه من كل مكان بحيث لا يعود يستوعب ما يسمع، ولا يقدر على القراءة بالوعي الكافي. حياة القارئ اليوم مجرد عناوين من هنا وهناك، ولقطات قصيرة، وجمل ومصطلحات يكررها بالإيقاع نفسه الصحافيون والكتّاب والسياسيون والعامة، الذين تحملهم موجة واحدة بعيدًا عن أعماق الأحداث والمعاني. لاحظ المصطلحات التي تسمعها من الأطباء، أو الأساتذة، أو المحامين، أو أهل اليسار، أو أهل اليمين، أو حتى، أو بالأحرى، خصوصًا المثقفين ورجال النخبة، وسوف ترى أنها واحدة، ومصدرها واحد، وأن أحدًا لا يبذل أي جهد في البحث عن مرادف جديد يعبر به عن فكره ومواقفه، لأن هذا الطوفان الإعلامي صار هو أيضًا من يصنع أفكارنا. بالتأكيد، هناك تعابير رسخت في أذهاننا، وتحولت إلى علامات لا غنى عنها في سياقات الكتابة أو المحادثة.. مثلاً كلمة «كاريزما» التي تُنسب إلى ماكس ويبر، أو كلمة «مصداقية» التي أدخلها على قاموسنا الحديث الراحل كلوفيس مقصود، الذي عاد إلى العالم العربي من أكسفورد والهند، متأثرًا برفقة وصداقة كبار الفلاسفة.. لكننا على العموم، أصبحنا أسرى التعميم، وأسرى المعلّبات اللفظية التي يمكننا إحصاؤها في أي مقال نقرأه أو برنامج حواري نصغي إليه. لا مَفَر. الإعلام الجديد شجع على قولبة إنسان جديد.. إنسان تسوقه الدعاية والإعصار اليومي والجمل المركّبة ونشرات الأخبار العاجلة التي لم يعد يتوقف أحد عند سواها. تأمل معارك الرئاسة الأميركية، من كارتر إلى ريغان إلى اليوم، إنها جميعًا «ملزمة» إلى شركات إعلانية. حتى الكنيسة الكاثوليكية عندما أرادت أن تحارب الدعوة إلى الإجهاض، لجأت إلى الشركة التي لجأ إليها ريغان في حملته الدعائية. هذا يعني أن الناس أصبحت تتقبل، بكل بساطة، عملية التنويم المغناطيسي من دون أي تفكير أو جهد أو تعمق حقيقي في أي مسألة من المسائل المطروحة عليها. لكن في نهاية المطاف، الإعلام يقدم لنا ما نحب: المرشحون السفهاء، والبرامج الصاخبة المليئة بالإهانات، والمقدمون الهوائيون الذين يقولون أي شيء يخطر لهم من دون أي حساب لأي كان. والحمد لله أن حصتي من التلفزيونات ضئيلة جدًا، ومع ذلك، ما زلت أعتقد أن المواطن في عصر شكسبير كان سعيدًا.