قابلت بعض الأصدقاء الألمان القدامى وهم من المغرمين بالأدب فقالوا لي بأنهم قرؤوا بشغف رواية الكاتبة السعودية القديرة رجاء عالم «طوق الحمام» والتي ترجمت إلى اللغة الألمانية. وقد فازت بها عالم بجائزة البوكر العربية في 2011. سعدت جدا بأن صوت إحدى كاتباتنا السعوديات المتميزات يتردد صداه في ساحات الأدب العالمية وأن رواياتها لها معجبون من ثقافات مختلفة. ناقشنا الرواية بنقد القارئ المهتم، فاتفقنا بأن من أهم العوامل التي جعلت هذه الرواية مميزة هو صوت رجاء الاستثنائي، فسردها مزيج من السرد الروائي الشفهي التقليدي الذي يذكرنا بسحر ألف ليلة وليلة، ولكنه في نفس الوقت يحمل ملامح النصوص الديجيتال الإلكترونية والتي تميز النص الحديث سواء أكان مكتوبا أو على شكل صورة، فالصورة أيضا في علم المعاني الحديث عبارة عن نص يقرأ ولهذا علم يدرس ويسمى visual rhetoric. فطوق الحمام تحمل رسائل الكترونية تكتبها البطلة عائشة، كما تحمل الرواية تصويرا سينمائيا وفوتوغرافيا فانتازيا لمكة القديمة برواشينها وأزقتها المظلمة وأسرارها وشخوصها. وهنا يمتزج صوت الراوِي التقليدي الذي كان يهازج الجالسين في المقاهي التقليدية ويخلق لهم عالما من الخيال فوق بساط الريح، وبين النص الإلكتروني الآني الحديث الذي يعبر القارات ويخترق الثقافات ويخلق العولمة في أماكن كان يستحيل عولمتها بلا وسائل تواصل الكترونية. إنه بساط الريح الجديد: حلم أصبح حقيقة ولكن بثوب عصري لم يتخيله أجدادنا. عالم سحري تخلقه أزرار ولغات. إنه عالم الكلمة أيتها السيدات والسادة، فالكلمة هي التي توحد العالم وتخلق جسورا من التواصل بين البشر. والعامل الثاني الذي تحدثنا عنه كثيرا هو استحواذ «مكة» المدينة الساحرة على وجدان عالم في هذا الكتاب وقد قلت لهم بأن هذا الشيء موجود في جميع كتاباتها وحتى أعمالها الفنية مثل المجسم الذي شاركت أختها شادية عالم في عرضه في La Biennale di Venezia وهو معرض فني مهم للفن المعاصر في فينيسيا بإيطاليا شاركتا فيه رجاء وشادية عالم بعمل باسم القوس الأسود في 2011. فمكة بالنسبة لرجاء عالم مركز الكون ومفتاح الأحلام وشعلة اللاشعور السريالي، وهي مغرمة بمكة القديمة بحاراتها الضيقة ومصابيحها المضيئة وسلالمها المتعرجة وأسطح منازلها المثيرة التي شهدت الكثير من الأحداث في فترات الحج حينما كان يجتمع المكيون بزوارهم من كافة أرجاء العالم الإسلامي في وحدة عجيبة مميزة. وهي من أشد المعجين بتمازج الثقافات التي كونت نسيج المجتمع المكي كما نعرفه اليوم، لغات وحضارات وتواريخ ورجال ونساء وثقافات وألوان، كل هذا تتحدث عنه رجاء عالم بحب وغرام العاشق الولهان للتاريخ القديم، تكتب رواياتها كتوثيق تاريخي إجتماعي والأنثروبولوجي للحياة خلف الأبواب المغلقة في المدينة الغامضة والسحرية والتي يتمنى الكثيرون زيارتها أو بالقليل معرفة مايدور فيها. روايتها هذه مرثاة لمكة القديمة التي تشبة مدن العصور الوسطى في بعض نواحيها ولكنها تشبه أكثر المدن تحضرا في التمازج البشري والتعايش المسالم وسعة الأفق وقبول الآخر واحتضان الثقافات بلا تمييز ولا عنصرية، إنها حقا مدينة ساحرة. مكة في روايات عالم ليست مكانا فقط ، إنها من شخوص الرواية بل وأهم شخصية محركة لها، مكة هي تاريخ وجغرافية المكان والزمان والبشر والبيوت والطرقات والحمام الرمادي بأطواق قوس قزحية. إنها مكة قبل هجوم البنايات الشاهقة والمولات التجارية التي تدب بظلال الرأسمالية والاستهلاكية. مكة البسيطة بساطة تراب عرفة وصخور الصفا والمروة والعذبة عذوبة زمزم التي تنبثق من عين تاريخية لا تنضب. والرواية رغم جمال وفخامة لغتها المغرقة في المفاجآت اللفظية والصوتية والتصويرية وهي ميزة معروفة في كتابات عالم كافة، ليست ميسورة القراءة، بل تحتاج إلى طقوس تفرغية لمتابعة الأحداث المتشابكة كخيوط العنكبوت اللزجة، كما تحتاج إلى ذاكرة حاضرة لتعدد الشخوص فيها ولجوها السريالي، ولكنها مخطوطة تكاملية رائعة روعة الكلمات التي تخلقها خيالات عالم لترصها على أوراق الرواية التي تقارب الستمائة صفحة من الكتابة الإبداعية المتميزة..