×
محافظة المنطقة الشرقية

إرساء مركز دبي للمؤتمرات بـ 1.8 مليار درهم

صورة الخبر

يعد كتاب الباحثة التونسية آمال قرامي «الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية» من الكتب القليلة باللغة العربية التي تتناول العلاقة بين الرجل والمرأة في التراث العربي بصورة جيدة تستحق المناقشة. الكتاب في مجمله وصف العلاقة بين الرجل والمرأة في الحضارة الإسلامية بأنها علاقة التابع بالمتبوع، وهي علاقة نمطية تجذرت في الفقه الإسلامي وفي الصورة الذهنية العامة عن وضع المرأة في الإسلام. وفي حقيقة الأمر جاء الإسلام ثورة على عصره فحرر المرأة من عدد من القيود التي كانت عليها وحجم من قدرة الرجل على الزواج، وأعطى للمرأة حق خلع زوجها. هذه الحقوق تطورت إلى حد ما وتجمدت تارة أخرى، وكان من أسباب الجمود والخوف، الحروب، بخاصة الحروب الصليبية، التي كان لها ردود فعل سلبية على انغلاق مجتمعاتنا على ذاتها، هذا ما أثر سلباً في الرجال والنساء، حتى على انغلاق منظومة القيم، هنا السياق التاريخي يلعب دورًا مهمًا في هذه العلاقة. كان الأديب المصري خيري شلبي في روايته الوتد التي تحولت إلى مسلسل تلفازي، قدم نموذج الأم ذات السلطة على الأبناء والتي تدير عائلة كبيرة برجالها، وهو نموذج شاع في العديد من قرى مصر كما أن المرأة الموريتانية لعبت تاريخياً أدوارًا تجعل النموذج التفسيري لآمال قرامي محط تساؤل، كذلك نماذج مثل شجرة الدر ونفيسة البيضا في مصر ممن تولين الملك أو أدرن تجارة أو كان لهن سطوة. إن نموذج آمال قرامي قد يصطدم بسجلات المحاكم الشرعية وقضايا المرأة بها، لكنه في النهاية نموذج تفسيري يستحق القراءة رأينا فيه المرأة المقهورة المظلومة، ونسينا فيه سلطات المرأة المجتمعية، فهي التي تختار زوجة الابن بعد أن تشاهد الفتيات في الحمام، وهي التي تتحكم في زوجات الأبناء، فهي هنا سلطة عليا في الأسرة الممتدة. إن ما سبق يستند أيضاً إلى ما أثارته الباحثة في كتابها حيث تذكر أنه ألحت المجتمعات على أهمية الوحدة والتكتل والانسجام والتجانس في مختلف المجالات: في اللغة والدين ومنظومة القيم وغيرها من العناصر التي تشكل الثقافة وتبين المطامح التي تسمو الجماعة إلى تحقيقها، وهي ترى أن العلوم الإنسانية الحديثة مثل الأتنوغرافيا والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع الوظيفي وغيرها أكدت أن هذا التجانس مزعوم لا يتعدى الظاهر. اعتمدت الباحثة في كتابها منهجية سليمة في تناول موضوع دراستها، فهي ترى أنه إذا كان المجتمع يقوم على الأفراد، أي على الرجال والنساء، فقد مثل الاختلاف بين الجنسين: الذكور والإناث، النواة المركزية، في حين أن بقية مظاهر الاختلاف نحو الاختلاف اللوني والاختلاف العرقي والاختلاف الديني والاختلاف الطبقي، وغيرها اعتبرت أصنافاً فرعية منضوية تحته، وعلى هذا الأساس رأت أن تعالج ظاهرة الاختلاف في الحضارة العربية الإسلامية من زاوية الاختلاف بين الجنسين، فحاولت تفكيك بنيته للتوصل إلى فهم المنطق الذي خضعت له ظاهرة الاختلاف في ابرز تجلياتها، فمظاهر الاختلاف تبدو مستقلة في الظاهر ولكنها متصلة بعضها ببعض اتصالاً وثيقًا، بل إنها في كثير من الحالات تخضع للمنطق نفسه وتتحكم فيها الآليات نفسها لتنتج المواقف المتشابهة، ووجدت الباحثة في هذا السياق ظواهر مثل: الاستعلاء، والاستنقاص والاعتراف والتهميش والتعالي والدونية والهيمنة والخضوع وغيرها. لكن أبرز ما في هذا الكتاب هو دراسة آمال قرامي للدور الموكول إلى النساء بخصوص تربية الولدان في مرحلة الطفولة المبكرة، مبررة ذلك بحاجات هؤلاء الكثيرة وعدم استقلالهم بأنفسهم. فالأم تقوم بمعية نساء العشيرة بإشباع حاجات الطفل المتعددة والإشراف على تنمية ملكاته، ومده بمعلومات عن العالم من حوله حتى يتسنى له الوعي به ثم الانخراط فيه تدريجياً. وبواسطة الخرافة والأهزوجة والترقيص تساعد النساء الأطفال على تشرب المثل واستيعاب القيم، ويدفعنه إلى اتخاذ موقع في المجتمع الصغير الذي ينتمي إليه وفق معيار السن. وشيئاً فشيئاً يكتسب الولد وعياً بهويته الجندرية ويتفطن الذكر إلى أن انتماءه إلى عالم الذكور هو انتماء إلى عالم السيادة، وتكشف البنت أن مجمع النساء يختلف عن مجتمع الرجال، فهو مجتمع التدبير النسائي للمولود من تمريخ وقماط وهدهدة. وهذه الأفعال تعكس قيم المجتمع وتميط اللثام عن بنيته الاجتماعية التراتبية، بيد أن هذا المجتمع يخضع لقانون الأب وللمحددات التي ضبطها المجتمع الذكوري للذكورة وللأنوثة، وما على النساء إلا التنفيذ. تأسس بنيان مجتمع النساء على محبة الأمهات لأولادهن، وحنوهّن على الصغار منهم وإشفاقهن عليهم. وهي مشاعر متدفقة بعفوية لأنها كما يقول القدماء، مركوزة بالفطرة في نفوس النسوان. وتقبّلت الجماعة بقاء أبنائها في أحضان النساء، وفي حجورهن، إذ استقر في الأذهان اشتراك هؤلاء جميعاً في مجموعة من الصفات والخصائص والطباع، من ذلك أن الصبيان والنساء يتصفون بالتوكّل. فهم لا يفكرون في أمر المعاش ولا يهمهم طلبه ويعيشون عالة على الرجال. كما أنهم يلتقون في الضعف والعقل فلا غرو أن كان القوم «يعيبون... أخلاق النساء والصبيان». والمطلع على النصوص يدرك أن المجتمع كان على وعي بملازمة الأطفال لأمهاتهم، فقد كان هؤلاء «يبعدون عن مواضع الرجال، ولا يكادون يختلطون بهم». وكان «النكاح يعقد في محافل الرجال، والصبيان والعبيد لا يدعون إلى محافل الرجال عادة». ومعنى ذلك أن صغر الصبي وعدم استقلاله بنفسه حالا دون انضمامه إلى عالم الرجال، وجعله بالضرورة في ركاب النسوان. يألف الطفل روائح النساء وأصواتهن ويعيش على وقع حركاتهن ويتعود جسده لمسة أيديهن ومداعباتهن وفيض قبلاتهن. ولا عجب في ذلك فالتمثلات الاجتماعية تثبت أن أحاسيسهن أكثر رقة وهن أسرع إلى التعبير عن مشاعرهن بالبكاء من الرجال، إلى غير ذلك من الخصوصيات النسائية. والناظر في وسائل التعبير لديهن يدرك أنها تومئ إلى أهمية القرب: قرب الأجسام والمسافات، أي الاحتضان والاحتواء. يصحب الولد الأم في حلها وترحالها في أعمالها وأثناء ساعات لهوها فتحتفظ ذاكرته بتفاصيل دقيقة عن حياة النسوان وهمومهن في مختلف ظواهرها. ولما كان الأب غائباً في أكثر ساعات النهار وغير قادر على العناية بالمولود بسبب التقسيم الجندري للأدوار، فقد بدا متخوفاً على مصير ابنه، ذاك الذي كان في نظره لعبة بيد الأم، لأنه موضوع حبها والبديل من الأب، ومن ثم لم يكن في وسعها التفريط به بيسر. إن إحساس الطفل بهذا الفيض من العواطف يشعره بالأمان. أليس حنين الكهل إلى عالم الطفولة الصغرى حنيناً في الحقيقة إلى دفء أحضان المرأة، أماً كانت أو جدة أو حاضنة! هذا الكتاب في مجاله يستحق القراءة، وهو من أفضل ما صدر باللغة العربية في القرن الحادي والعشرين، لشموله وتحليله، قد يختلف بعضهم معه، لكنه سيظل مرجعًا لا غنى عنه لدراسة المجتمعات العربية الإسلامية.