كان مجرد تلميح مجلس الاحتياطي الفيدرالي «المركزي الأمريكي» بأنه ربما يقدم قريبا على رفع أسعار الفائدة وهي التي تشكل «ترمومتر» الاقتصاد الأمريكي وتحديدا في حزيران (يونيو) المقبل، كفيلا بإحداث هزة عنيفة في الأسواق، فدائما ما كانت الفائدة الأمريكية فزاعة الأسواق العالمية، إذ تراجعت قيمة الأسهم في البورصات الدولية، وانخفضت أسعار الذهب، وتقلصت أسعار النفط، وبالطبع فإن الاستثناء الوحيد كان الدولار، إذ ارتفعت قيمته في مواجهة العملات الأخرى. والسؤال الآن هو: هل ما قام به «الفيدرالي الأمريكي» عملية جس نبض للأسواق وتوجهاتها إذا ما أقدم على رفع أسعار الفائدة؟ وما الدروس المستفادة من عملية جس النبض تلك؟ وهل تؤدي الهزة التي شعرت بها الأسواق إلى إحجام «الاحتياطي الفيدرالي» عن رفع الفائدة أم تدفعه إلى المضي قدما في قراره الشهر المقبل؟ بغض النظر عن النتائج التي ستشهدها الأسواق؟ وهل تعد رغبة كبار المسؤولين في «المركزي الأمريكي» برفع أسعار الفائدة رغبة جماعية أم أنها تعكس صراعا اقتصاديا داخل أروقة المجلس بشأن طبيعة السياسة المالية المثلى الواجب اتباعها؟. لكن السؤال المنطقي والأولي الذي قد يتبادر إلى الأذهان يتمثل في الأسباب التي قد تدفع مجلس «الاحتياطي الفيدرالي» إلى رفع الفائدة، خاصة أن ذلك قد يسفر عن ارتفاع في قيمة الدولار، ومن ثم يؤدي إلى تراجع الصادرات الأمريكية، ولهذا تأثيرات سلبية على القطاع الصناعي وقطاع الخدمات في الولايات المتحدة إضافة إلى انعكاس ذلك بصورة مضرة على الميزان التجاري في أكبر اقتصاد عالمي. «الاقتصادية» استطلعت آراء عدد من الخبراء والمختصين والاقتصاديين في مسعى للتعرف على تفاصيل المشهد الراهن، في توجهات مجلس الاحتياطي الفيدرالي، بشأن أسعار الفائدة وتداعيات ذلك على الأسواق العالمية. مايك مولي المختص الاستراتيجي في التحليل المالي في مجموعة "إل. دي الدولية للاستثمار" يعتقد أن إقدام الفيدرالي الأمريكي على رفع أسعار الفائدة لا يزال محل جدل وقرار غير محسوم، ويضيف أن السبب الرئيسي لرفع الفائدة سواء تعلق الأمر بـ"الفيدرالي الأمريكي" أو أي بنك مركزي في العالم يرتبط أساسا بتحسن المؤشرات الاقتصادية الداخلية، وهذا تحديدا هو الوضع في الولايات المتحدة، فالمؤشرات تشير إلى نمو ملحوظ في الاقتصاد الأمريكي في الربع الثاني من هذا العام وانخفاض في معدلات البطالة، وهذا بالنسبة لصناع السياسية المالية يمثل حافزا قويا للإقدام على رفع الفائدة. وأضاف مولي أن هناك دراسة حديثه لبنك "جولدن ساش" تشير إلى أن 90 في المائة من حالات رفع الفيدرالي الأمريكي للفائدة خلال الربع قرن الماضي كانت متوقعة من قبل الأسواق، مشيرا إلى أن الهزة التي حدثت للأسواق لمجرد التلميح بأن سعر الفائدة سيرفع الشهر المقبل، لربما يظهر أن المؤشرات الاقتصادية مهيأة لتقبل القرار، لكن الأسواق غير مستعدة بعد لذلك خاصة خلال أشهر الصيف على الأقل. واستبعد مولي أن يقدم الفيدرالي على رفع الفائدة الشهر المقبل، مشيرا إلى أن "جولدمان ساش" توقع أن يقوم مجلس الاحتياطي الأمريكي بزيادة الفائدة أربع مرات هذا العام ثم قلص توقعاته إلى ثلاث مرات والآن يتوقع إن تم ذلك فلن يتجاوز مرتين، أما مجموعة "بلاك روك" لإدارة الأموال فتتوقع ألا يقدم الفيدرالي الأمريكي على رفع أسعار الفائدة هذا العام على الإطلاق لأن الأسواق العالمية غير مهيأة لذلك. وجهة النظر تلك لا تتناقض مع الحديث الدائر في الإعلام العالمي عن صراع داخل أروقة صنع السياسية المالية الأمريكية بين جناحين، فالصقور المطالبون برفع الفائدة، يعتبرون ذلك رسالة مباشرة للمستثمرين الدوليين للاستثمار في الدولار القوي، أما جناح الحمائم فيدعو إلى أخذ التداعيات الدولية لتلك الخطوة في الحسبان، وما يمكن أن يسفر عنها من تراجع في أسواق الأسهم والنفط والذهب، كما سينجم عن ذلك مزيد من الانكماش في الاقتصاد العالمي. فينسينت لويس المختص المالي في بورصة لندن يؤكد أن احتمالات رفع الفائدة في حزيران (يونيو) بلغت أوائل الشهر الحالي 1 في المائة، وبعد صدور تلميحات الفيدرالي الأمريكي قفزت إلى 30 في المائة، والآن بلغت بالنسبة لشهر تموز (يوليو) 48 في المائة، وفي أيلول (سبتمبر) 64 في المائة، وبصفة عامه فإن توقعات الأسواق حاليا برفع الفائدة مرتين هذا العام تلامس 29 في المائة. وحول ردود فعل أسواق الأسهم الدولية لتلميحات الفيدرالي الأمريكي بشأن رفع الفائدة يستدرك لويس قائلا، إنه من الملاحظ أن ردة الفعل الأولي كانت عبر التراجع الملحوظ في قيمة الأسهم، فقد أغلقت معظم مؤشرات الأسهم الرئيسية في بورصة وول ستريت الأمريكية على انخفاض وأنهى مؤشر داو جونز الصناعي القياسي جلسة التداول منخفضا 91.22 نقطة، أو 0.52 في المائة، ليصل إلى 17435.4 نقطة، فيما خسر مؤشر ستاندرد آند بورز 500 الأوسع نطاقا 7.59 نقطة، أو 0.37 في المائة، ليصل إلى 2040.04 نقطة، بينما تراجع مؤشر ناسداك المجمع لأسهم التكنولوجيا 26.59 نقطة، أو 0.56 في المائة، ليصل إلى 4712.53 نقطة. وأوضح لويس أن الأسواق استعادت بعض عافيتها المفقودة أمس فقد ارتفعت الأسهم الأوروبية في بداية تعاملات الأمس، حيث زاد مؤشر يوروفرست 300 لأسهم الشركات الأوروبية الكبرى 0.9 في المائة بعدما نزل 1.2 في المائة في الجلسة السابقة، وفي أنحاء أوروبا فتح مؤشر فاينانشيال تايمز 100 البريطاني مرتفعا 0.96 في المائة بينما استهل كاك 40 الفرنسي التعاملات مرتفعا بنسبة 1 في المائة وداكس الألماني 0.85 في المائة. ورجح لويس أن تكون تلميحات الفيدرالي بشأن أسعار الفائدة قد مثلت مفاجئة للأسواق التي لم تكن مستعدة للتعامل معها، لكن بعد مرور 24 ساعة أدرك المستثمرون أن التلميحات تعكس قناعة الفيدرالي بأن الاقتصاد الأمريكي في وضع قوي، وأن النمو هو اتجاه ثابت ومتزايد للاقتصاد الأول في العالم، وأن هناك ثقة ملحوظة من قبل صناع السياسة المالية في الولايات المتحدة بقوة الوضع الاقتصادي الداخلي، وهو ما أعاد للأسهم بعض توازنها المفقود، ومن المتوقع خلال أسبوع من الآن أن تعوض الأسواق خسائرها ولربما تحقق ارتفاعات ملحوظة. أما بالنسبة للذهب، فالأمر يبدو مختلفا تماما، حيث يعتقد جون ماك كريستال من اتحاد صناعة السبائك أن الذهب لن يسير في اتجاه الأسهم، فقد انخفض سعر المعدن من جراء التوقعات المحيطة برفع أسعار الفائدة الأمريكية، إذ بلغ سعر الذهب نحو 1254 دولار للأونصة في بورصة سنغافورة، ليواصل المعدن النفيس انخفاضه للأسبوع الثالث على التوالي في أطول تراجع منذ تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي. وأضاف كريستال أن التوقعات بشأن الذهب تختلف عما حدث في سوق الأسهم الذي تحسن نسبيا في اليوم التالي، وذلك لأن قيمة الدولار في ارتفاع وهذا يضعف الذهب، ومن غير المتوقع في هذه الحالة إذا واصل الدولار قوته فلن تتحسن أسعار الذهب، فتلميحات الفيدرالي الأمريكي ستلقي بظلال سيئة على أسعار المعدن النفيس لبعض الوقت. ويؤكد كريستال أن الوضع سيكون أسوأ إذا ما أقدم "المركزي الأمريكي" على رفع أسعار الفائدة خلال الشهر المقبل أو بشكل مفاجئ، فهذا سيعطي مؤشرا للأسواق بأن الاقتصاد الأمريكي في وضع جيد، وسيفقد المستثمرون وصناديق التحوط المبرر للاستثمار في الذهب، وسيتم التحول من الذهب إلى الدولار ما سيفقد المعدن النفيس الكثير من قيمته. الهزة التي انتابت الأسواق بشأن احتمال رفع الفائدة طالت أسعار النفط التي تعاني تراجعا شديدا، لكن التحسن الذي طرأ على النفط لاحقا يرتبط بعوامل أخرى مثل اضطرابات نيجيريا وإعلان شركات أمريكية منتجة للنفط الصخري إفلاسها وأزمة فنزويلا. ويعد الدولار الأمريكي المستفيد الأكبر من تلك التطورات، فبعد دقائق بعد الكشف عن محضر اجتماع "الفيدرالي الأمريكي"، ووجود اتجاه قوي في داخله لرفع أسعار الفائدة، قفز الدولار إلى أعلى مستوى في ستة أشهر. وأوضح الدكتور ألفريد وود أستاذ التجارة الدولية أن ارتفاع الدولار يعد رد فعل طبيعيا للغاية للرسالة التي تضمنها احتمال رفع الفائدة، والرسالة باختصار أن الاقتصاد الأمريكي قوي، مضيفا أن ارتفاع قيمة الدولار في وجه العملات الدولية من جراء "احتمال" رفع الفائدة هو رد فعل نفسي بالأساس، إنما تأثير رفع سعر الدولار على الاقتصاد الأمريكي والعالمي ملموس ويترجم بشكل عملي في التغيرات الملحوظة على ميزان المدفوعات والميزان التجاري، وهنا يكمن السبب الحقيقي وراء الحذر الشديد من قبل الفيدرالي في اتخاذ قرار صريح برفع الفائدة. ويرى ألفريد وود أن ارتفاع قيمة الدولار له تبعات اقتصادية متعددة في اتجاهات متضاربة، فهو يؤثر سلبا على الصادرات الأمريكية، لكنه من جانب آخر يجذب رؤوس الأموال الدولية للمصارف الأمريكية، وبمقدار ما له من تداعيات سلبية على عملية الإقراض، فإنه يعزز مكانة الدولار في سلة احتياطي العملات الدولية، وذلك له تأثير إيجابي على الاقتصاد الأمريكي ككل، إذا نحن أمام "وضع ملتبس". وبرأي ألفريد وود فإن قرار الفيدرالي برفع الفائدة، يجب اتخاذه لعوامل اقتصادية بحته، فتطورات الاقتصاد الأمريكي تتطلب رفع الفائدة لأن الفائدة المنخفضة تمثل شكلا من أشكال دعم الدولة للاقتصاد، وهذا وفقا للنظرية الرأسمالية الكلاسيكية لا يمكن له ويجب ألا يستمر طويلا، ولهذا فإن الاستثمار في الدولار في المرحلة المقبلة استثمار مربح للغاية مقارنة بغيره من الاستثمارات سواء في الأسهم أو المعادن. ويعتقد جون وليز الاستشاري في المجموعة الدولية للاستثمار أن الارتفاع الراهن والمقبل في قيمة الدولار، سينعكس سلبا على النمو في الاقتصادات الناشئة، التي تراجع متوسط النمو فيها من 7.5 إلى 4 في المائة. وأضاف وليز أن قيمة ديون الشركات الخاصة في الاقتصادات الناشئة تقارب نحو 19 تريليون دولار ولا تقل النسبة الدولارية لهذه الديون ضمن إجمالي ديون الشركات الخاصة بين 25 و35 في المائة، وفي بعض الاقتصادات تتجاوز 50 في المائة، ولهذا فإن ارتفاع الدولار سيمثل ضغطا اقتصاديا كبيرا على الأسواق الناشئة، وقد يدفع إلى تنامي حالات الإفلاس في بلدان مثل جنوب إفريقيا وتركيا وروسيا.