قضيتُ وقتًا طويلاً وممتعًا بصحبة كتاب (تعلُّم الحياة: سأروي لك تاريخ الفلسفة) لـ(لوك فيري) الوزير السابق للتربية الوطنية في فرنسا. من المسائل المهمة التي يتعرض لها الكتاب موقع التقنية في حياتنا المعاصرة، ومدى تأثيرها في حركة إنسان هذا العصر. من المقولات التي يطرحها المؤلف قوله «إن بروز عالم التقنية حسب هايدغر يعني إبطال مسألة المعنى: أي فقدان الأهداف النهائية للتاريخ البشري». ومن ثم فإن «العبور من العلم إلى التقنية: يعني موت المثل العليا أو زوال الغايات لمصلحة الوسائل (حركة المجتمعات)». وهو يؤكد - أي المؤلف - في هذا الإطار أن «الاقتصاد الحديث يعمل مثل الانتقاء الطبيعي عند داروين: كل شركة لا تتطور كل يوم يكون مصيرها بكل بساطة الموت». وهذا ما يؤدي بدوره في النهاية إلى أنه «تبدو التقنية كآلية لا غائية، وبلا أي هدف محدد سوى (المنافسة)، وغير موجّه أبدًا بالإرادة الواعية للبشر». خطر في بالي شركة رائدة مثل نوكيا، كيف كانت المتوجة دون منازع على سوق الهواتف المحمولة في جميع دول العالم، ولعقود خلت، وانتهت قصتها؛ لتروى في صفحات التاريخ عن شركة بانت ثم بادت. ولحقها أيضًا شركات عملاقة أخرى مثل موتورولا وبلاك بيري وإريكسون، وأخريات، انتهى بها السباق مبكرًا، حتى قبل أن تقطع خطواتهم الأولى. الدرس الأول هنا: الفكرة الإبداعية التي لا تتطور لن تتمكن من البقاء في المنافسة. وهذا لا يختص فقط بشركات التقنية، بل كل الشركات التي تقتات على ما تقدمه من ابتكارات، وأفكار خلاقة. ولكن الحديث هنا عن شركات التقنية؛ لدورها المهم في حياتنا، ولأنها - أي التقنية - أصبحت هي المحرك للقطاعات كافة المتماسة مع حياة الإنسان، والمؤثرة فيه. ومن ناحية أخرى، فإن الأفكار الإبداعية التي تقدمها شركات التقنية هي من ترسم وتشكل رغبات وأذواق وتوجهات الناس، بمعنى أنها لا تساير المزاج العام أو الأفكار السائدة للبشر، بل هي من تصنع المنتج، الذي يجعل الإنسان هو من يتبع تعليمات المنتج نفسه؛ فتبدو حركة الإنسان مع هذا المنتج هي هي نفسها، سواء لمواطن سعودي أو صيني أو فرنسي، لا يهم هنا المرجعية الدينية أو الثقافية، طالما أن البرامج التقنية هي من تخضع الإنسان لقوانينها، أراد ذلك أم لم يرد. اختيار الإنسان الوحيد هو في عدم استخدامه لهذا المنتج، ولكنه أيضًا خيار يبدو أنه مقاوم، لكنه في الحقيقة يجعله بمعزل تام عن الحياة من حوله، كأنه يعتزل الناس، ويفضل الوحدة على مخالطتهم! لم تعد الصورة كما كانت سابقًا: الآلة في خدمة الإنسان، بل أصبحت الآن: الإنسان تحت رغبات الآلة! مقالات أخرى للكاتب يا لهذا الكائن.. ما أعظمه.. وما أضعفه؟ بين السيف والرأي..! البقاء هو الاستثناء! رب كلمة مفقودة.. أعانت باغيها ! البيوت التي لا عماد لها!