أن تسمع مَن يعترف أن القراءة قد غيرت حياته؛ فهذا أمر طبيعي، لما للمطالعة من آثار إيجابية تساعد على تهذيب السلوك ونبوغ العقول، أو أن يقرَّ مسؤولٌ أن لا نهضة حقيقية من دون أن تمر على جسور المعرفة؛ فهذا شيء أكثر من رائع، يبشر بتقدم وازدهار، إذا مر بالفعل البشر على تلك الجسور، أو أن ترى حقداً من أحد الناس على آخر؛ فلا غرابة في ذلك لكثرة ما نراه من أحداث وقضايا بين الناس أمام ساحات القضاء. أو أن تتبحر في كتب التاريخ وتتعرف إلى عشاق القراءة أمثال أرسطو وابن الهيثم وبورخيس وهذا الأخير كان يتخيل الجنة مكتبة مترامية الأطراف؛ فهذا أمر بديهي لأشخاص تعرف كيف تتفوق بالقراءة... والقراءة فحسب. أما أن تقرأ وتسمع أن هناك من كان حاقداً على الكتاب وكارهاً للمعرفة، بل قام بإعدام آلاف الكتب المعرفية في شتى المجالات الإنسانية؛ فهذا أمر أشد من الغرابة.. حدثنا التاريخ عن كارهي الكتب، الذين لم يألوا جهداً في إحراق أعظم ما أنتجته العقول البشرية. من بغداد، حيث هولاكو زعيم التتار، إلى الموصل، حيث أبي بكر البغدادي، زعيم الدواعش، ومن ألمانيا، حيث الطلبة النازيين ونرجسية الجنس الآري وإحراق ما هو غير ألماني من الكتب، إلى الأندلس، حيث محرقة كتب الفلاسفة وخصوصاً ابن رشد وكتامة المصير المحتوم؛ تدور أهم محطات رحلة #كتب_تحترق. مذبحة المعرفة اجتاحت العالم الإسلامي هجمة بربرية في العام 656هـ، تمثلت في احتلال التتار عاصمة العالم الإسلامي آنذاك؛ بغداد، أسفرت عن تدمير ما لا يعد ولا يحصى من أرقى الكتب التي ابتكرتها الحضارة الإسلامية وغيرها من الحضارات الإنسانية السابقة، فقد ألقى الحاقدون منهم، بأمر من زعيمهم هولاكو، كتب العلم في نهر دجلة، الذي أسود لون الماء فيه، وقيل إنّهم بنوا بها جسراً من الطين والماء لمرور بربرية جحافلهم بين دفتي النهر، الأمر الذي أدى إلى فقدان الحضارة الإنسانية آنذاك إلى أهم رافد معرفي فقد كان يُقال إنّ أعظم خزائن الكتب في الإسلام ثلاث خزائن: إحداها خزانة الخلفاء العباسيين ببغداد، كان فيها من الكتب ما لا يُحصى كثرة، ولم تزل على ذلك إلى أن دهم التتار بغداد، وقتل ملكهم هولاكو المستعصم آخر خلفائهم ببغداد، فذهبت خزانة الكتب فيما ذهب، وذهبت معالمها وأعفيت آثارها. التتار الجدد تمر السنون والعقود، ومرة أخرى تتحالف قوى الشر على المعرفة، وتتآمر على الكتاب، ففي المكان نفسه العراق، يقدم تنظيم (داعش)؛ التتار الجدد، على ارتكاب جريمة لا تقل عما ارتكبه هولاكو، بتفجير مكتبة الموصل المركزية في العراق، وحرق محتوياتها التي تضم أكثر من 10 آلاف كتاب ومخطوطة، وحرق أكثر من 100 ألف كتاب في مكتبة محافظة الأنبار، أمام حشد من أهالي المدينة الذين حاول عدد منهم ثني التنظيم عن فعلتهم، وإقناعهم بضرورة الحفاظ على المكتبة لما تحويه من كتب ومخطوطات نادرة، ولكن دون جدوى. محرقة الكتب على الجانب الآخر من العالم وتحديداً في ألمانيا شهدت الكتب أيضاً دماراً لما هو غير ألماني فقبل 83 عاماً، وتحديداً في العام 1933 شهدت مدينة برلين واحدةً من أكبر عمليات الحرق خلال الحقبة النازية، فقد تجمع آلاف من الطلبة في أحد الميادين وقامت عدد منهم بنقل أكثر من 20 ألف كتاب لتحرق أمام أعين الجميع. ومن بين الكتب التي أحرقت مجموعة من أعمال كتاب ألمان مشهورين أمثال هينريش مان وإريش ماريا ريماركيه ويواخيم رينجلناتس. وألقى زعيم الطلاب النازي خطاباً مليئاً بالكراهية قبل أن يبدأ بنفسه بإلقاء أول مجموعة من الكتب في النيران المشتعلة وهو يقول: ها أنا ألقي في النار كل ما هو غير ألماني. ما نفعله هو التصدي للروح غير الألمانية. وكل ذلك تم بمباركة الزعيم النازي أدولف هتلر الذي احتفظ لنفسه بالسلطة المطلقة بعد وصول النازيين للحكم مطلع عام 1933 ليبدأ بعدها رحلة السيطرة على العقول. الأندلس الوجع المنسي مشهد من فيلم المصير الذي أخرجه الراحل يوسف شاهين يختصر مأساة حرق الكتب في الفردوس المنسي؛ الأندلس، ففي عهد أمير دولة الموحدين، المنصور، أحرقت كتب القاضي ابن رشد، وتحولت ظاهرة حرق كتبه مجرد كليشيه عن حرية الفكر والرأي. ابن رشد لم يكن الوحيد الذي أحرقت كتبه أمام عينيه، فقد شهدت الأندلس في القرنين الخامس والسادس للهجرة ظاهرة حرق الكتب بأمر من السلطة. ففي عهد أمراء الطوائف أحرقت كتب الإمام ابن حزم الظاهري. وفي عهد أمير دولة المرابطين علي بن يوسف بن تاشفين أحرقت كتب الإمام أبو حامد الغزالي، وخصوصا كتابه إحياء علوم الدين. كل ذلك وغيره أدى إلى انهيار دولة الأندلس التي ظلت طيلة 8 قرون تشع منارة على الحضارة الإنسانية جمعاء، وبعد سقوط الدولة الأندلسية لم تنج الكتب من المحارق، فأمر الكاردينال سيسنيروس عام 1501 بحرق مكتبة مدينة الزهراء التي كان بها ما يزيد على 600 ألف مخطوط في مكان يسمّى باب الرملة في غرناطة، فاختفت العديد من المخطوطات وأمّهات الكتب النفيسة. وتكثر الروايات والأشعار التي تتحدث عن تلك المرحلة، وما كان يحصل للكتب في ظل محاكم التفتيش. لماذا يحرقونها؟! حرق الكتب والمكتبات تنم عن همجية في التعامل مع المعرفة وتعني العودة إلى الوراء، وهنا نتساءل: لماذا يفعل الطغاة ذلك العمل الإجرامي، وما الدافع وراء إقدام ديكتاتور ما أو تنظيم معين على تلك الخطوة، لأنهم ببساطة يخافون من العقول التي تقرأ وتعرف حقوقها وواجباتها، إنهم يريدون أن نفقد الذاكرة لذلك يصمون الكتب بالرفاهية الزائفة، لذا يقومون بحظر الكتب والقراءة ومنعها، بل إحراقها، وبالتالي نكون أمامهم أغبياء ونقبل الذل بخضوع واستسلام.