بين ضيق الصدر وضيق الأفق همزة وصل. وبين رفض التدخل الخارجي في الشأن الداخلي والتضييق الداخلي على التعامل الخارجي جرة قلم. وبين الدفاع عن البلاد والذود عن العباد شرور المؤامرات ومغبات التفتيتات والتحكم في البلاد والتضييق على العباد نقاط تشابك وبؤر تناقض والكثير من القيل والقال بين عموم المصريين. المصريون يطالعون هذه الأيام كماً متزايداً من أخبار إلقاء القبض على هذا لأنه رفع شعاراً معادياً، و ملاحقة ذاك لأنه غنى أغنية فيها شبهة ازدراء، ورفع قضية على هؤلاء لأنهم عبروا عن آراء فيها خروج على القاعدة، والتحقيق مع أولئك لأنهم دونوا أو غردوا مواقف شخصية ولم يراعوا طبيعة وظائفهم في القضاء مثلاً، لكن تبقى حالات تصنيف الساخرين باعتبارهم محرضين ومثيرين للبلبلة وداعين إلى قلب الأنظمة وهدم المؤسسات وتفتيت البلاد هي الأكثر إثارة والأعلى تداولاً. تداول ملايين المصريين مقاطع مصورة لأعمال فريق «أطفال شوارع» الذي ألقي القبض على أعضائه بتهمتي «التحريض على التظاهر، ونشر فيديوات على الإنترنت تتعرض لمؤسسات الدولة»، بين داق على «تعليق» لصب الغضب ووصم الفريق بـ «قلة الأدب»، وبين مسارع إلى «مشاركة» مع تعجب من أن دولة تعتبر فريقاً فنياً مبتدئاً يحمل كاميرا ويصور نفسه «سيلفي» في الشارع مؤدياً مقطعاً ساخراً ومغنياً أغنية مضحكة عدواً تنبغي محاربته، أو سعيداً بأن صورة الدولة تهتز لدخولها في مهاترات وتفاهات تكشف خوفها من «شوية عيال» ما قد يؤدي إلى عودة نظام «إخواني» سقط أو حلم ثوري تبخر. لكن ما تبخر فعلياً هو المنطق في التأييد أو المعارضة. قاعدة عريضة من المواطنين رافضة للفريق وأعضائه وفنه تحت شعار استنكاري «هو احنا ناقصين؟» أو راية الأدب أو قلته حيث «جيل قليل الأدب ناقص تربية» أو «البلد في إيه ولا في إيه؟» في ظل أولويات البلد الذي يعاني الأمرين تحت اقتصاد ضاغط وسياسات غابت؛ وآخرون لا يعنيهم في شكل مباشر أمر الفريق ولم يسمعوا عنه من قبل أو يهمهم ذلك من الأصل ويرون أن على الدولة ألا تشتت جهودها وأن الشعب المطحون أولى بالاهتمام، وفريق ثالث متعاطف مع «العيال» من منطلق أبوي أو أمومي أو أخوي. «الإخوان» والثوريون والمعارضون وغير الراضين عن النظام عموماً وجدوا في «أطفال شوارع» وقبلهم البلاغات المقدمة ضد الفنان الشاب أحمد مالك الذي وزع عوازل ذكرية باعتبارها بالونات على رجال الشرطة في ميدان التحرير في ذكرى الثورة، وبينهما التحقيق مع رسام الكاريكاتور الشاب إسلام جاويش صاحب الرسوم الساخرة من النظام والرئيس بتهمة فتح موقع إلكتروني من دون ترخيص، فرصاً ذهبية للدق على أوتار «انتهاك الحريات» و «قمع الشباب» و «إخراس كل لسان يجرؤ على التغريد خارج سرب الوطنية بمفهومها الرسمي». رسمياً لا تصدر تصريحات أو تخرج تفسيرات أو تطرح تنويهات عن هذا أو ذاك أو هؤلاء، بل تترك الساحة لفريق يرى ضرورة إعادة ترتيب أولويات المصريين في شكل يتواءم وواقعهم الاقتصادي والأمني الخطير حيث لا مجال للالتفات إلى «عيال تافهة» هنا أو «تظاهرات هبلة» هناك، وفريق في المقابل يقف على منصة ضرورة المعارضة وحتمية المجابهة ومركزية المجاهرة في الداخل والخارج بما يحدث من أفعال وخطوات ترسخ للديكتاتورية على حساب الديموقراطية، وتدفع نحو الانهيار الذي هو أبعد ما يكون من البناء. بناء دولة مدنية حديثة لا يقوم على البكاء في أحضان الغرب كلما حدثت مشكلة أو وقعت أزمة أو تم إلقاء القبض على «عيال قليلة التربية». وهو لا يقوم أيضاً على إلقاء القبض على كل من يتفوه بكلمة أو يعبر عن رأي أو يكشف عن توجه مهما كان عجيباً أو غريباً أو يبدو أنه يسير عكس التيار. هكذا يقول الطرفان. ويرى الطرفان كذلك أن ليس من حق القاضي أن يعبر عن وجهة نظر أو موقف شخصي أو انحياز ذاتي إلى قضية جدلية ولو كان ذلك عبر صفحته على «فايسبوك» أو «تويتر» أو غيرهما طالما لا يزال في الخدمة. لكنهما يختلفان في توقيت التعبير، فإن كان الرأي داعماً للفريق الأول فهو عين العقل وله كل الاحترام، أما إن كان مؤيداً للثاني فهو ضرب من جنون وعليه كل العار، والعكس صحيح. الشيء وعكسه أيضاً يتجليان، لكن في شكل ديني، إذ قفز رجال الدين إلى مركبة التحيز والاستقطاب. فبينما يتنافس رجال دين محسوبون على الدولة على الاجتهاد في توجيه تهمة إضافية إلى «أطفال شوارع» بين ازدراء أديان وإجرام يهدف إلى هدم منظومة المجتمع الثقافية والقيمية، يتفتق ذهن رجال دين جماعات الإسلام السياسي المقصاة، عن الدعاء على الرئيس وأعوانه الذين يرهبون الإسلام والمسلمين، ويتضرعون إلى السماء للتخفيف عن الأبناء والأخوة في الله. وبعيداً من الدعاء والتضرع، أو التوحد والانقسام، يمضي العالم في طريقه قدماً فيعلن الأمين العام للأمم المتحدة قلقه من الأوضاع الحقوقية في مصر، كلما ارتأت المنظمة الأممية الحدث أو الانتهاك جللاً. كذلك الحال لوزارات الخارجية الغربية ووزرائها، إذ يأتي الشجب والتنديد والقلق وعدم الارتياح أو الدعم والتأييد والاطمئنان وعدم الانزعاج وفق اتجاه الانتهاك وحجم الخرق ومعيار الانزعاج وتوجه المصالح. أما في الداخل، فتبقى القناعات مشكلة وفق ترتيب الأولويات واتجاه السياسات وما تحمله القلوب من حب لهذا أو ولاء لذاك أو حلم غير واضح المعالم.