في سنة 1433هـ صدرتْ موافقةُ المقام السامي على تأسيس شركة وادي مكة للتقنيةِ، يومَها اتصل بي صديقٌ عزيزٌ من رجالاتِ الدولةِ المخلصين وقال لي: يادكتور بكري، مبارك عليك الشركة، وأتمنى أن تركّز على المجال التقني، والاستثمار فيه، وألا تتحوَّلَ إلى مكتبِ عقار! دارتِ الأيام دورتَها وافتتح سموُّ أمير المنطقة في هذا العام مبنى الشركاتِ الناشئةِ التابع لوادي مكة للتقنية. احتضن هذا المبنى 16 شركةً ناشئةً كلها قائمةٌ على براءات اختراع، وأبحاث علمية، وأفكار مبتكرة، التفتَ صاحبنا يومها إلى سمو الأمير وقال له: لقد قلتُ لمدير الجامعة قبل سنواتٍ ركزوا على التقنية، فوعدني، وهاهي جامعة أم القرى تفي بوعدِها وتقدِّمُ نموذجاً تقنياً متميزاً على مستوى أودية التقنية في الجامعات السعودية. هذا الرجلُ الثاقبُ النظرةِ، الواضحُ الرؤية، هو معالي الدكتور بندر حجّار، وزير الحجّ السابقِ، الأكاديميُّ العريقُ، ورجلُ الدولةِ المحنَّكِ، الذي تنقل بين مناصبها: عضواً في مجلس الشورى، فرئيساً للجنة الشؤون الخارجية فيه، فنائباً لرئيسه، ورئيساً للجنةِ حقوقِ الإنسانِ، ورئيساً للمجلس الوطني لمراقبة الانتخابات، وأخيراً وزيراً للحجِّ، ومكلفاً بوزارة الإعلام. ولم تخلُ سيرتُهُ العطرةُ من مهامّ أكاديميةٍ علميةٍ تمثلتْ في وكالة كلية الاقتصاد والإدارة، ورئاسة مركز أبحاث الاقتصاد الإسلاميّ، ورئاسةِ تحرير مجلة الأسواق والأموال، إضافةً إلى كوكبةٍ من الأبحاثِ والمؤلفاتِ. مايلفتُ النظرَ في مسيرةِ الدكتور الحجار وسيرتِهِ أنه رجلٌ مولعٌ بالبناءِ والتأسيس، فقد كان في كل مكانٍ يحلُّ فيه يحرص أولاً على ترسيةِ الأسس السليمة، وتمتين البنية التحتية، ولعل له في هذا من اسمه نصيباً، فقد ذكرتْ بعض كتب التراجم أنَّ أولَ من ورد المدينةَ من آل الحجار كان يتعاطى عمل الحجارة في عمارةِ المسجدِ النبويِّ الشريف، فقيل له: الحجار، فياله من نسبٍ في البناءِ عريق، مرتبطٍ بخيرِ الخلقِ صلى الله عليه وسلم. يمتازُ الدكتور بندر كذلك بخلُقٍ رفيعٍ، وأدبٍ جمٍّ، وكان من تمام أدبه أنه إذا احتاج إلى خدماتِ أحد منسوبي الجامعةِ يتصل بي شخصياً قبل الكتابة الرسمية، ويسأل: هل ذهاب فلان يُربك عملاً ما في الجامعة، وهل هناك من يسدُّ عنه؟ وكان يردد عبارته المتكررة: لا أريد إصلاح مكانٍ بإفسادِ آخر. وكنتُ دائماً أجيبه لما يطلبُ، ثقةً مني بأنَّ من سيعمل معه من منسوبي الجامعة سيعود إليها بخبرةٍ وتجربةٍ مفيدتين. وذات مرةٍ قال لي: استحييتُ منك يادكتور، لكثرة ماطلبتُ منك وأنت لا تقول:لا! فقلتُ له: هل تريدني أن أقول: لا؟ فقال: نعم أريد ذلك، فقلت: لا! لن أقول لك: لا! لا تنتهي ذكرياتُ هذا الرجلِ الموفق ومواقفُهُ، وأعتقدُ أن جميعَ من له صلةٌ بأعمال الحجِّ والعمرةِ يعرفُ لهذا الرجل إخلاصه وحرصه وهمته ورؤيته، وكان يمكنُ أن أقول هذا الكلام في مناسباتٍ كثيرةٍ حظِيَ فيها معاليه بالتكريم المستحقّ، ولكنني آثرتُ أن أطويَ هذا كله في صدري خشيةَ ظنّ السوء، أما وقد ترجل عن جوادِهِ، وسلَّمَ أمانة المنصبِ لخلفِهِ، فقد آن أن أصرِّحَ بالحقِّ الذي عرفتُهُ، والمواقفِ التي شهدتُها، فنعمُ الرجلُ كانَ إخلاصاً وولاءً وبذلاً وعطاءً. معالي الدكتور .. ربما ارتحل عن الوزارة شخصك .. ولكنّ ذكرك مقيمٌ لايبرح.