لندن: أمير طاهري لو أننا سُئلنا عن وجهة نظرنا في مدى قدرتنا على خوض صعاب الحياة، فيمكننا أن نتخيل جميعا أن الأمر يبدو وكأنه مهمة مستحيل تحقيقها. ومع ذلك، يبقى من المرجح أن يستطيع القليل منا خوض مثل تلك المهام المستحيلة في الحياة الواقعية. وقد استطاع أحد الرجال البارزين في عالمنا وهو روبرت غيتس، وزير الدفاع الأميركي السابق، خوض تلك المهام الصعبة. وعلى مدى أكثر من نصف قرن، تم تدريب وتوظيف غيتس من قبل الآلة السياسية الأميركية، وتُعد تلك الفترة من أطول الفترات التي قضاها مسؤول في أورقة السياسة الأميركية. وقد تشكلت غالبية مسيرة غيتس، التي قضاها تحت حكم ثمانية رؤساء متعاقبين، في ظل عمله كنائب مدير ثم مدير لوكالة الاستخبارات الأميركية (CIA). وعلى الرغم من كونه من المحسوبين على الرئيس السابق جورج دبليو بوش، استطاع غيتس أن يُبقي على سجله الوظيفي خاليا من أي انتماءات حزبية، وهو ما جعله يحصل على لقب «رجل كل العصور». في عام 2009، بدا أن غيتس يريد أن يترك العمل السياسي ويتفرغ لتحقيق الحلم، الذي راوده لسنوات طوال، بأن يصبح عميدا لإحدى الكليات في مسقط رأسه، ولاية تكساس. لكن هذا لم يحدث، إذ وجه الرئيس الجديد باراك أوباما دعوة لغيتس للعمل معه وزيرا للدفاع. وكانت تلك الدعوة غريبة لأن غيتس من أكثر المساعدين ولاء لآل بوش، بينما يدين أوباما بجزء كبير من نجاحه في انتخابات 2008 الرئاسية لعامل الكراهية الشديدة في أوساط الأميركيين تجاه الرئيس السابق جورج دبليو بوش على وجه الخصوص، وآل بوش على وجه العموم. يمثل كتاب: «الواجب: مذكرات وزير في الحرب» سردا لتجربة غيتس التي ظهرت خباياها عندما قبل دعوة أوباما للدخول في إدارة الديمقراطيين. ولا يصرح غيتس أبدا بأنه حصل على موافقة بوش الأب لقبول دعوة أوباما، لكن يبدو من المؤكد أنه فعل ذلك. وليست هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها رئيس ديمقراطي تنقصه الخبرة بالاستعانة بأحد قيادات الجمهوريين للعمل معه في منصب وزير الدفاع، فقد اتخذ الرئيس الأسبق بيل كلينتون نفس الخطوة عندما دعا السيناتور ويليام كوهين لتولي حقيبة الدفاع. المثير في الأمر أن الرؤساء الديمقراطيين كانوا هم الذين أشعلوا فتيل جميع الحروب التي خاضتها أميركا منذ أربعينات القرن الماضي، وكانت تلك الحروب دائما ما تضع أوزارها على يد الرؤساء الجمهوريين. غير أن أوباما كان هو الاستثناء لتلك القاعدة، فهو رئيس ديمقراطي يحاول إنهاء اثنتين من الحروب (في أفغانستان والعراق) اللتين أوقد نيرانهما رئيس جمهوري. وكان أوباما يريد أن يشرف غيتس على إجراءات إنهاء هاتين الحربين من أجله. هناك، بالطبع، طرق كثيرة لإنهاء حرب ما، حيث يمكن ببساطة لأحد أطراف النزاع أن يهرب أو أن يستسلم للعدو، كما يمكن للحرب أن تنتهي عندما ينتصر فيها أحد الطرفين المتنازعين. أما استراتيجية أوباما لإنهاء الحرب فكانت فريدة من نوعها، إذ إنه لا يفضل أيا من الطريقتين. لقد أراد فقط أن يجعل الحربين تبدوان مثل «أخطاء مأساوية» حتى يتسنى له إثبات صحة الفكرة التي كان يروج لها خلال حملته الانتخابية، لكنه كان يريد، رغم ذلك، تنفيذ خطة تحقق له النصر في جميع الأحوال. وصف غيتس أوباما، من دون التصريح المباشر بذلك، بأنه منافق إن لم يكن محتالا ومخادعا بكل ما تحمله الكلمة من معنى. إننا بصدد الحديث هنا عن رئيس كان يتصرف وفقا لما هو متوقع بشأن الجوانب الأقل أهمية بخصوص أي قضية من القضايا، غير أنه كان مخطئا تماما فيما يتعلق بالأمور الجوهرية. ويقول غيتس «لم يكن لدي أدنى شك فيما يخص تأييد أوباما (لقواتنا)، ولكن الشكوك تتعلق بشأن تأييده لمهمتنا». يعد هذا التصريح غريبا، فإنه يعني عند ترجمته بلغة واضحة وبسيطة أن أوباما أرسل القوات، التي من المفترض أنه يدعمها، إلى طريق محفوف بالمخاطر، في حين أنه كان يأمل طوال الوقت، بصورة سرية، أن يفشلوا في مهمتهم. يوضح غيتس مسألة الاهتمامات الغريبة لأوباما مع سرد أحداث أحد المؤتمرات المهمة التي حضرها الرئيس والجنرال ديفيد بتريوس، قائد قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) في أفغانستان آنذاك. ويقول غيتس «عندما كنت أجلس هناك، كنت أعتقد أن الرئيس لا يثق في قائد قواته، ولا يستطيع تحمل (الرئيس الأفغاني) كرزاي ولا يؤمن باستراتيجيته ولا يعد أن الحرب هي حربه». كان أوباما مهتما بشكل أكبر بمنع وجود تأثير لبتريوس كمرشح رئاسي جمهوري محتمل ومنافس مفترض في عام 2012. ويعني هذا الأمر ضرورة عدم السماح لبتريوس بالادعاء بتحقيق نصر عسكري في العراق أو أفغانستان. وفي نفس الوقت، كان أوباما يكره كرزاي بسبب اعتقاده أن الرئيس الأفغاني من «صنع بوش». ومن خلال النظر في هذا الكتاب الرائع والممتع، نجد في طياته شعورا بالغضب. يدرك الأشخاص الذين يعرفون غيتس عن كثب أنه شخص هادئ ويتحلى برباطة الجأش، فضلا عن خبرته في إخفاء مشاعره، بما يجعله نموذجا للشخص الإنجليزي المثالي، الذي اندثر في الوقت الحاضر، والذي كان من المفترض وجوده في العصر الفيكتوري. وعلى الرغم من ذلك، ففي كتابه «الواجب»، يبدو غيتس بشكل أكبر مثل أحد الشباب الغاضبين المنادين بمذهب المثالية الذي تحطمت أوهامه. وكان من بين تلك الأوهام أن الشخص المنتخب كرئيس للولايات المتحدة الأميركية لا بد أن يكون، على أقل تقدير، بنفس القدر الذي تحظى به الولايات المتحدة الأميركية. ومن الواضح أن أوباما ليس كذلك. وكان من بين الأوهام الأخرى أن جميع الأمور المتعلقة بصناعة السياسات في واشنطن تتمثل في المشورة والنصح والموافقة. وعلى الرغم من ذلك، ففي فترة ولاية أوباما، تتركز صناعة السياسات في شخص الرئيس، وهو ما لم يكن ممكنا قبل ذلك. ويظهر نائب الرئيس جو بايدن مثل النسخة السياسية من شخصية «اياغو (Iago)»، المذكورة في مسرحية «عطيل (Othello)» لويليام شكسبير، حيث يهمس بايدن بالشكوك والظنون في آذان الرئيس قائلا له «توخ الحذر بشأن الجيش» و«لا تثق في الجيش». ولم تزدد قوة هذه النزعة إلا مع رحيل القليل من الشخصيات التي تتمتع بثقل وأهمية، ومن بينهم غيتس نفسه، الذي استقطبه أوباما في فترة ولايته الأولى. وفي الوقت الراهن، تشتمل إدارة أوباما على أربعة أشخاص من أعضاء مجلس الشيوخ السابقين، مع عدم ارتباط أسمائهم بتحقيق أي إنجازات مهمة على الإطلاق. وتعتبر حالة بايدن من الحالات المثيرة للانتباه بشكل خاص، حيث شارك في قضايا السياسية الخارجية لمدة ما يقرب من 40 عاما وكان مصرا بشكل خاطئ وباستمرار على كل شيء بداية من تأييده للثورة الخمينية في إيران وصولا إلى معارضته لوضع الاتحاد السوفياتي في موقف صعب بهدف إنهاء الحرب الباردة. في كتابه هذا، لم يكن غيتس لطيفا تجاه النخبة بالكونغرس الأميركي، حيث وصف أعضاء لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ، التي كان يترأسها حينذاك جون كيري، بأنهم يتسمون بـ«الفظاظة والبذاءة والغطرسة». ويقدم لنا غيتس انطباعا بشأن وجود سياسيين أميركيين فاسدين ومولعين بالانتقاد، في حين أنهم يوجهون العظات إلى السياسيين العراقيين أو الأفغان ليحذروهم من الفساد وسوء الإدارة. ومن الأمور التي تجعل فضول القارئ أقل إشباعا، هو تناول الكتاب لمسألة إعادة التنظيم الهائل للآلة العسكرية الأميركية الذي حدث في السنوات الأخيرة من فترة إدارة بوش وزادت وتيرتها تحت حكم أوباما. وفي هذا الصدد، لا يقدم لنا غيتس سوى وصف بسيط مقتضب بشأن أسباب تقليص ميزانية الدفاع بشكل كبير، بما في ذلك تقليل العمليات التكنولوجية للقوات الجوية الأميركية والاعتماد المتزايد على العمليات التي يُتحكم فيها عن بعد باستخدام طائرات من دون طيار وهو ما يفضله أوباما. يقدم لنا هذا الكتاب مادة قصصية بشأن سلوك أوباما الغريب كرئيس وقائد أعلى. بيد أن الكتاب لا يخبرنا بالسبب وراء تصرف أوباما بهذه الطريقة. وعلى الرغم من ذلك، فإن أوباما نفسه قدّم بعض الأدلة والمفاتيح لحل هذا اللغز من خلال خطاباته التي لا تُحصى. وجاء آخر هذه الأدلة في خطابه أثناء مراسم تأبين نيلسون مانديلا، زعيم جنوب أفريقيا، في جوهانسبورغ. وخلال هذه الخطبة، قال أوباما إنه فكر في الوصول إلى الرئاسة الأميركية بعد معرفته بشأن مانديلا و«نضاله في سبيل الحرية». وبمعنى آخر، فإن أوباما لم يكن يؤمن على الإطلاق بأسطورة «الحلم الأميركي» والفلكلور المصاحب له بشأن الحرية ومبدأ تكافؤ الفرص. وبالنسبة له، كانت الولايات المتحدة الأميركية وجنوب أفريقيا، أثناء فترة الفصل العنصري، بلدين فيهما نفس القواسم المشتركة. لا يوجد في هذا البلد أي نشاط بشأن التبشير العالمي بالحرية والديمقراطية، ناهيك عن استخدام قدرتها العسكرية للإطاحة بالأنظمة الفاسدة مثل طالبان في أفغانستان ونظام صدام في العراق. ويقول غيتس إن أوباما لم يكن مهتما على الإطلاق بإظهار أقل مظاهر الدعم أو التأييد لثورة الشعب السوري المنادي بالديمقراطية. وفي المقابل، كان أوباما يسعى وراء تحقيق حلمه بالوصول إلى اتفاق مع الملالي في طهران. وفي حين كان بشار الأسد يذبح السوريين في الشوارع، كان أوباما مشغولا بكتابة خطاباته الخمسة، التي لم يُجَب عليها، وإرسالها إلى علي خامنئي، «المرشد الأعلى» للنظام الخميني في طهران.